تعريفه:
قال أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى معرفاً الإخلاص:
(الإخلاص إفراد الحق سبحانه في الطاعة بالقصد، وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله
تعالى دون شيء آخر من تصنعٍ لمخلوق أو اكتسابِ مَحْمَدَةٍ عند الناس أو محبة مدحٍ
لمخلوق أو معنى من المعاني سوى التقرب إلى الله تعالى. وقال: ويصح أن يقال: الإخلاص
تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين) ["الرسالة القشيرية" ص95 ـ 96].
وقال أبو علي الدقاق رحمه الله تعالى: (الإخلاص: التوقي
عن ملاحظة الخلق، فالمخلص لا رياء له) ["الرسالة القشيرية" ص95 ـ 96].
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: (ترك العمل من أجل
الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما) ["الرسالة
القشيرية" ص95 ـ 96].
وقال الإمام الجنيد رحمه الله تعالى: (الإخلاص سِرٍّ بين
الله وبين العبد، لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده ولا هوىً فيميله) ["الرسالة
القشيرية" ص95 ـ 96].
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى: (حق
المخلص أن لا يرى إخلاصه ولا يسكن إليه، فمتى خالف ذلك لم يكمل إخلاصه، بل سماه
بعضهم رياء) ["الرسالة القشيرية" ص95 ـ 96].
هذه الأقوال والعبارات المتنوعة في الإخلاص ترجع إلى
مقصد واحد وهو أن لا يكون للنفس حظ في عمل من الأعمال التعبدية، الجسمية منها
والقلبية والمالية، وأن لا يرى إخلاصه.
أهميته في الكتاب والسنة:
لما كان قبول الأعمال موقوفاً على وجود الإخلاص فيها،
أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بالإخلاص في عبادته تعليماً لهذه الأمة
فقال: {قلْ إنِّي أُمرتُ أنْ أعبُدَ اللهَ مُخلِصاً لهُ الدينَ} [الزمر: 11] وقال:
{قل اللهَ أعبُدُ مخلِصاً لهُ ديني} [الزمر: 14]. وقال عز وجل: {فاعبُدِ اللهَ
مخْلِصاً له الدينَ ألا لله الدينُ الخالصُ} [الزمر: 2].
كما أمر الله تعالى خلقه أن تكون جميع عباداتهم القولية
والفعلية والمالية خالصة له تعالى، بعيدة عن الرياء فقال: {وما أُمِروا إلا
لِيَعبُدوا اللهَ مُخلِصينَ له الدينَ} [البينة: 5].
وأوضح الحق سبحانه أن السبيل إلى لقاء الله تعالى يوم
القيامة لقاء رضى وإنعام هو العمل الصالح الخالص لوجه الله، السليمُ من ملاحظة
الخلق فقال: {فمَنْ كان يرجو لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عملاً صالحاً ولا
يُشْرِكْ بعِبادَةِ رَبِّهِ أحداً} [الكهف: 110].
وجاءت الأحاديث الشريفة توجِّه العبد إلى الإخلاص في
جميع أعماله وتحذِّره أن يقصد بعبادته ثناء الناس ومدحَهم وتبين أن كل عمل لم يتصف
بالإخلاص لله تعالى فهو مردود على صاحبه، وتوضح أن الله تعالى لا ينظر إلى ظاهر
أعمال العبد، بل ينظر إلى ما في قلبه من النوايا والمقاصد، لأن الأعمال بالنيات،
والأمور بمقاصدها.
وقد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم الرياء شركاً أصغرَ
تارة، وسماه شركَ السرائر تارة أخرى. وأخبر أن الله تعالى سوف يتبرأ من المرائي
يوم القيامة، ويحيله إلى الناس الذين أشركهم في عبادته.
وهذه بعض الأحاديث الشريفة التي تبين أهمية الإخلاص
وتوضح هذه المعاني المذكورة:
1ـ عن أبي أمامة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: "أرأيتَ رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر، ما له ؟ فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: لا شيء له، فأعادها ثلاث مرات، ويقول رسول الله صلى الله
عليه وسلم: لا شيء له، ثم قال: إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان له
خالصاً، وابتُغِيَ به وجهه" [رواه أبو داود والنسائي بإسناد جيد].
2ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوَرِكم، ولكن ينظرُ
إلى قلوبكم" [رواه مسلم في كتاب البر والصلة].
3ـ عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: "مَنْ صام يرائي فقد أشرك، ومن صلى يرائي فقد أشرك، ومن تصدق
يرائي فقد أشرك" [رواه البيهقي كما في "الترغيب والترهيب" ج2/ص31].
4ـ وعن محمود بن لبيد قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: "يا أيها الناس إياكم وشرك السرائر. قالوا: يا رسول الله وما شركُ
السرائر ؟ قال: يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الناس إليه،
فذلك شرك السرائر" [رواه ابن خزيمة في صحيحه].
5ـ وعن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "إن أخوَف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول
الله ؟ قال: الرياء. يقول الله عز وجل إذا جُزِيَ الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى
الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً" [رواه الإمام
أحمد بإسناد جيد].
6ـ وعن أبي سعيد بن أبي فضالة رضي الله عنه، وكان من
الصحابة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا جمع الله الأولين
والآخرين يوم القيامة ليومٍ لا ريب فيه، نادى منادٍ: مَنْ أشرك في عمله لله أحداً
فليطلب ثوابه من عنده، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك" [رواه الترمذي في
كتاب التفسير، تفسير سورة الكهف].
أقوال العلماء في أهمية الإخلاص:
قال مكحول رحمه الله تعالى: "ما أخلص عبد أربعين
يوماً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه" ["الرسالة القشيرية"
ص 95ـ96].
وقيل لسهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى: أي شيء
أشد على النفس ؟ قال: (الإخلاص، لأنه ليس لها فيه نصيب) ["الرسالة القشيرية"
ص 95ـ96].
وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: (إذا أخلص
العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء) ["الرسالة القشيرية" ص 95ـ96].
وقال ابن عجيبة في شرح حكمة ابن عطاء الله السكندري
رحمهما الله تعالى: [الأعمال صور قائمة، وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها]: (الأعمال
كلها أشباح وأجساد، وأرواحها وجود الإخلاص فيها، فكما لا قيام للأشباح إلا
بالأرواح وإلا كانت ميتة ساقطة ؛ كذلك لا قيام للأعمال البدنية والقلبية إلا بوجود
الإخلاص فيها، وإلا كانت صوراً قائمة وأشباحاً خاوية لا عبرة بها) ["إيقاظ
الهمم في شرح الحكم" لابن عجيبة ج1/ص25].
وكلام العلماء والعارفين في الإخلاص أكثر من أن يحصى،
وكلهم يؤكدون عظيم أهميته وكبير أثره.
مراتب الإخلاص:
قال ابن عجيبة رحمه الله تعالى: (الإخلاص على ثلاث درجات:
إخلاص العوام والخواص وخواص الخواص.
فإخلاص العوام: هو إخراج الخلق من معاملة الحق مع طلب
الحظوظ الدنيوية والأخروية كحفظ البدن والمال وسعة الرزق والقصور والحور.
وإخلاص الخواص: طلب الحظوظ الأخروية دون الدنيوية.
وإخلاص خواص الخواص: إخراج الحظوظ بالكلية، فعبادتهم
تحقيق العبودية والقيامُ بوظائف الربوبية محبة وشوقاً إلى رؤيته، كما قال ابن
الفارض:
ليس سؤْلي من الجنان نعيماً غيرَ أني أحبها لأراكا
وقال آخر:
كلهم يعبدون من خوفِ نارٍ ويروْن النجاة حظاً جزيلاً
أو بأنْ يسكنوا الجنان فيضحوا في رياضٍ ويشربوا
السلسبيلا
ليس لي في الجنان والنارِ رأيٌ أنا لا أبتغي بِحِبِّي
بديلا
وقال: والحاصل لا يمكن الخروج من النفس والتخلصُ من
دقائق الرياء من غير شيخ أبداً. والله تعالى أعلم) ["إيقاظ الهمم في شرح
الحكم" ج1/ص25 ـ 26].
وأسمى مقاصد الصوفية أن يرتقوا بإخلاصهم إلى أرفع
الدرجات ويعبدوا الله مبتغين وجهه دون أن يقصدوا ثواباً:
فما مقصودهم جنات عَدْنٍ ولا الحورُ الحسانُ ولا الخيامُ
سوى نظرِ الجليل وذا مُناهم وهذا مقصد القوم الكرامُ
كما قالت رابعة: ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في
جنتك، وإنما عبدتك لذاتك. فلو لم يكن ثَمَّة ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار،
لَمَا تأخروا عن عبادتهم ولما انثنوا عن طاعاتهم لأنهم يعبدون الله لله، ولأن
أعمالهم تصدر عن قلب عَمَّرَه حبُّ الله وحده، وطلبُ قربه ورضوانه، بعد أن أدركوا
نعمه وآلاءه، وذاقوا بِرَّه وإحسانه.
وليس معنى هذا أنهم لا يحبون دخول الجنة، ولا يرغبون في
البعد عن النار ـ كما فهم بعض الحمقى من أعداء التصوف ـ [فإن بعضهم أخذ يندد بكلام
رابعة العدوية، واتهمها بأنها فقدت الرغبة والرهبة. وهذا جهل ومغالطة فإنها لم
تخرج عن حدود الرغبة والرهبة، ولكنها سَمَتْ بهما وارتفعت، فكانت رغبتها في رضاء
الله وقربه وحبه، ورهبتها من غضبه وبعده، فكلما عظم إيمان المرء ازدادت رهبته
وسمَت رغبته، وكم كانت رابعة كثيرة البكاء والخوف والنحيب ؟!] فهم يكرهون النار
ويخافونها لأنها مظهر سخط الله وغضبه ونقمته، ويحبون الجنة ويطلبونها لأنها مظهر
حب الله ورضاه وقربه، كما قالت آسية زوجة فرعون: {ربِّ ابنِ لي عندكَ بيتاً في
الجَنَّةِ} [التحريم: 11]. فهي قد طلبت العِنْدية والقُرب قبل أن تطلب الجنة، طلبت
الجوار قبل الدار.
وما حُبُّ الديارِ شَغَفْنَ قَلبي ولكن حب من سكن
الديارا
ولم تكن رغبتها في الجنة إلا لنوال الحب والقرب والرضا
منه تعالى.
وهكذا عندما ترتفع همة العبد وتسمو غاياته يَتَرَفَّع عن
ملاحظة لذائذه البدنية ومنافعه الشخصية، سواء كانت دنيوية أم أخروية، ويبغي في
جميع عباداته الحب والقرب، والتحقق بالعبودية الخالصة، فعلى قدر همة العبد يكون
مطلبه.
ولا نقصد من هذا أن الذي يبغي من طاعاته وعباداته النعيم
الأخروي والتمتع بلذائذ الجنة، أو الخلاصَ من عذاب النار، أنه منحرف ضال، ولا
ندَّعي أنه محروم من وعد الله ؛ بل هو مؤمن طائع صالح، إلا أن مرتبته أدنى من
مرتبة أولئك الذين سمت نياتهم، وارتفعت هممهم في إخلاصهم لربهم.
قال الإمام السيوطي رحمه الله تعالى: (القيامُ بالأوامر
والنواهي لله وحده، لا لجلب ثواب ولا لدفع عقاب، وهذا حال من عبدَ الله لله، خلافُ
من عبدَ الله للثواب وخوف العقاب، فإنما عَبَدَ لِحَظِّ نفسه، وإن كان هو محباً
أيضاً، لكنه في درجة الأبرار، وذاك في درجة المقربين) ["تأييد الحقيقة العلية"
للإمام السيوطي ص61].
قال الشيخ أحمد زروق رحمه الله تعالى في "قواعد
التصوف": (تعظيم ما عظَّم الله متعيِّن، واحتقار ذلك ربما كان كفراً، فلا يصح
فَهْمُ قولهم: [ما عبدناه خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته]. على الإطلاق إما
احتقاراً لهما ـ وقد عظمهما الله تعالى ـ فلا يصح احتقارهما من مسلم، وإما استغناء
عنهما ولا غنى للمؤمن عن بركة مولاه. نعم لم يقصدوهما بالعبادة بل عملوا لله تعالى
لا لشيء، وطلبوا منه الجنة والنجاة من النار لا لشيء. وشاهد ذلك في قوله تعالى: {إنَّما
نُطعِمُكم لوجهِ اللهِ} [الإنسان: 9] إذ جعل عِلَّة العمل إرادة وجهه تعالى)
["قواعد التصوف" للشيخ أحمد زروق ص76].
شوائب الإخلاص في أعمال السالك:
قد تدخل على السالك آفاتٌ كثيرة تَشُوبُ إخلاصه، وما هذه
الآفات إلا حجب تعرقل سيره إلى الله تعالى، لذا كان من الضروري الإشارة إليها،
وتحذير السالكين من مخاطرها، ثم بيان طريق الخلاص منها حتى تكون جميع أعمال السالك
خالصة لوجهه تعالى.
الحجاب الأول: رؤيته لعمله وإعجابه به وحجابه به عن
المعمول له وبالعبادة عن المعبود.
فالذي يخلصه من رؤية عمله علمُهُ بفضل الله تعالى عليه
وتوفيقه له، وأنه مخلوق هو وعمله لله تعالى: {واللهُ خلَقَكُم وما تعمَلونَ} [الصافات:
96]. إلا أن له نسبةَ الكسب فقط.
وإذا دقق في صفات النفس، وعلم أنها كما وصفها الله تعالى:
{إنَّ النفسَ لأمَّارةٌ بالسوءِ} [يوسف: 53]. أدرك أن كل خير يصدر منه هو محض فضل
من الله تعالى ومنَّة، وعندئذٍ يتذوق معنى قوله تعالى: {ولولا فضلُ اللهِ عليكم
ورحمتُهُ ما زكى منكُمْ من أحدٍ} [النور: 21].
فتخلصُ العبد من رؤية أعماله وإعجابه بها يكون بمعرفة
نفسه ومعرفة دخائلها، فليجتهد الإنسان في تحصيل هذه المعرفة.
الحجاب الثاني: طلبه العوض لعمله، والعوض إما أن يكون في
الدنيا أو في الآخرة.
أما الذي يكون في الدنيا، فطلبه الشهوات المنوَّعة،
ومنها شهوة السمعة والشهرة، وحب الظهور وغير ذلك، وكذلك طلبه للأحوال والمقامات
والمكاشفات والمعارف.
ولهذا يقول العارف الكبير الشيخ أرسلان رحمه الله تعالى
ناصحاً كل ملتفت إلى غير مطلوبه ومحبوبه ومقصوده: (يا أسير الشهوات والعبادات، يا
أسير المقامات والمكاشفات، أنت مغرور) ["خمرة الحان ورنة الألحان" ص177].
وإنما كان أسيرها لأنها من جملة الأغيار ومن عالم الخلق، فالوقوف عندها قاطع عن
الوصول إلى معرفة خالقها تعالى، قال تعالى: {وأنَّ إلى ربِّكَ المنتهى} [النجم: 42].
ويقول الشيخ عبد الغني النابلسي رحمه الله تعالى معلقاً
على كلامه: (إذ لو كنت صادقاً ما التفتَّ إلى شهوة أو عبادة، ولا مقام ولا مكاشفة،
ولأفردْتَ القصد إليه تعالى وحده دون جميع ما عداه، ولجَرّدْتَ العزم والهمة فيه
تعالى، وتركت ما سواه. ثم قال: ونقل ابن عطاء الله السكندري في "التنوير في
إسقاط التدبير" عن شيخه أبي العباس المرسي رضي الله عنه، أنه يقول: (لن يصل
الولي إلى الله حتى تنقطع عنه شهوة الوصول إلى الله تعالى). ومن كلام بعضهم: (لو
رُفعتَ إلى ذروة الأكوان وترقيتَ إلى حيث لا مكان، ثم اغتررْتَ بشيء طرفة عين فلست
من أُولي الألباب) ويقول ابن الفارض رحمه الله تعالى:
قال لي حُسْن كل شيء تجلَّى بي تَمَلَّ فقلت قصدي وراك
فالالتفات إلى حسن المكوَّنات والمخلوقات، والوقوف عندها
اغترار وانقطاع) ["خمرة الحان ورنة الألحان" شرح رسالة الشيخ أرسلان
الدمشقي لعبد الغني النابلسي رحمه الله تعالى ص29].
ويقول بعضهم ناصحاً لمن هذا حاله:
ومهما ترى كلَّ المراتب تُجتلَى عليك فحُلْ عنها فعَنْ
مثلِها حُلْنا ويقول ابن عطاء الله رحمه الله تعالى: (ما أرادتْ همةُ سالك أن تقف
عند ما كشف لها، إلا نادته هواتف الحقيقة: الذي تطلب أمامك) ["إيقاظ الهمم في
شرح الحكم" ج1/ص51].
وطلبُ العبدِ لهذه المقامات وغيرها شهوة خفية، وذلك إما
أن ينالها فيطمئن إليها، ويُحجب بها عن المقصود ؛ وإما أن لا ينالها عندما سار
إليها، إلا أنه جعلها غاية، والله تعالى وسيلة، فيجتهد لتحصيلها فلا يصل، فيفتر
عزمه، ويقنط وييأس، وعندئذٍ يرجع القهقرى، إلا إذا لاحظتْه العنايةُ بإرشاد المرشدين،
فيمكنه التخلص من هذه الورطة، وإلا دام منقطعاً، وانقلب على وجهه خاسراً.
وأما طلب العوض في الآخرة: فدخول الجنة والنجاة من النار.
وتصحيح سيره بأن يعتقد أن دخول الجنة برحمة الله تعالى
لا بعمله ؛ فقد روي عنه عليه الصلاة والسلام: "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله،
قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته" [رواه
البخاري في كتاب المرضى ومسلم في كتاب صفات المنافقين].
فالذي يُخَلِّص العبد من طلب العوض على عمله عِلْمُهُ
بأنه عبد محض، وأنه لا ينال دخول الجنة والنجاة من النار إلا بفضل الله تعالى،
والعبد لا يملك مع سيده شيئاً، إذ عبادته لله تعالى لمحض العبودية، فما يناله من
الأجر والثواب تفضلٌ وإحسان من الله تعالى في الدنيا والآخرة ؛ وكذلك توفيقه
للعبادة، فإذا ما شهد هذا التوفيق من جملة نعم الله عليه، يسارع في شكر الله على
هذه النعم، عندئذٍ يخلص من طلب العوض لعمله.
والحجاب الثالث: رضاه عن أعماله واغتراره بها، وتخليصه
وإنقاذه من رضاه بعمله يكون بشيئين:
1ـ إطلاعه على عيوبه في أعماله، فقلَّ عمل من الأعمال
إلا وللشيطان فيه نصيب، وللنفس فيه حظ.
أما نصيب الشيطان، فقد أرشدنا إليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم، عندما سئل عن التفات الرجل في صلاته، فقال: "هو اختلاس يختلسه
الشيطان من صلاة العبد" [رواه البخاري في كتاب أبواب صفة الصلاة عن عائشة رضي
الله عنها. والترمذي في كتاب أبواب الصلاة وقال: حسن صحيح].
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: (فإذا كان هذا
الالتفات طرفة أو لحظة، فكيف التفات قلبه إلى ما سوى الله تعالى! هذا أعظم نصيب
للشيطان من العبودية) ["مدارج السالكين" ج2/ص51].
وأما حظ النفس من العمل، فلا يعرفه إلا أهل البصائر من
العارفين.
2ـ علم العبد بما يستحقه الرب جل جلاله من حقوق العبودبة
وآدابها الظاهرة والباطنة وشروطها. فلو اجتهد العبد بالليل والنهار لرأى نفسه
مقصراً تجاه الله تعالى، وأين العبد العاجز الضعيف من خالق الأكوان ؟ لهذا بيَّنَ
لنا حضرة الله أن موقف خلقه منه التقصير فقال: {وما قدَرُوا اللهَ حقَّ قدرِهِ}[الزمر:
67].
الخلاصة:
إن الإخلاص تصفية العمل من العلل والشوائب، سواء أكان
مصدرها التعلق بالخلق، كطلب مدحهم وتعظيمهم والهرب من ذمهم، أو كان مصدرها التعلق
بالعمل، كالاغترار به، وطلب العوض عنه...
لذا فإن أهل الهمم العالية أخلصوا دينهم لله، وسمعوا
نداء الله في قلوبهم {فَفِرُّوا إلى اللهِ} [الذرايات: 50] فاستجابوا لهاتف الحق،
وقال قائلهم ملبياً له: تركت الناس كلهمُ ورائي وجئت إليك.ش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق