الحاجة
الى العلم
إن
المسلم حين يعمل على تزكية نفسه وتطهير قلبه وتصحيح ظاهره وباطنه لا بد قبل ذلك أن
يكون قد صحح إيمانه، وقام بجميع عباداته المفروضة واستقام في معاملاته، ولا يتحقق
ذلك إلا بالعلم الصحيح. وهذا أمر بدهي واضح لأن فضل العلم أمر ظاهر، واشتراطه في
تصحيح الأعمال أمر متفق عليه. وإننا نثبت بحث العلم في هذه الطبعة تأكيداً لبيان
منزلته وشرفه ورداً على كثير من المتسرعين الذين يتوهمون أن رجال التصوف يقللون من
شأن العلم ولا يعطونه ما يستحق من الاهتمام والعناية]أساس الأعمال وإمامها
ومصححها، فكما أنه لا فائدة للعلم بلا عمل، كذلك لا ينفع عمل بلا علم...
وعالمٍ
بعلمه لم يعملنْمعذب من قبل عُبَّاد الوثنإذ كل من بغير علم يعملأعماله مردودة لا
تُقبل فالعلم والعمل توأمان لا ينفكان عن بعضهما، والسالك في طريق الإيمان والتعرف
على الله تعالى والوصول إلى رضاه لا يستغني عن العلم في أية مرحلة من مراحل سلوكه.
ففي
ابتداء سيره لا بد له من علم العقائد وتصحيح العبادات واستقامة المعاملات، وفي
أثناء سلوكه لا يستغني عن علم أحوال القلب وحسن الأخلاق وتزكية النفس...
ولهذا
اعتُبِرَ اكتساب العلم الضروري من أهم النقاط الأساسية في المنهج العملي للتصوف،
إذ ليس التصوف إلا التطبيق العملي للإسلام كاملاً غير منقوص في جميع جوانبه
الظاهرة والباطنة.
ولأهمية
العلم وفضله نذكر نبذة من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي
تشير إلى علو منزلته وعظم شأنه.
فضل
العلم في القرآن الكريم:
قال
الله تعالى: {إنَّما يخشى اللـهَ مِنْ عِبادِهِ العلماءُ} [فاطر: 28].
و
قال أيضاً: {هل يستوي الذين يعلمونَ والذين لا يعلمونَ} [الزمر: 9].
وقال
تعالى: {يَرفعِ اللهُ الذين آمنوا مِنكم والذينَ أوتوا العلمَ درجاتٍ}
[المجادلة:
11].
فضل
العلم في السنة الشريفة:
عن
أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"مَنْ سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن
الملائكة لَتَضَعُ أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر لَهُ
مَنْ في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل
القمر على سائر الكواكب، وإن العلماءَ ورثةُ الأنبياء، وإن الأنبياء لم
يُوَرِّثُوا ديناراً ولا درهماً، وإنما وَرَّثُوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر"
[رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه في كتاب العلم].
وعن
أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر
لأَنْ تغدو فتَعَلَّمَ آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة، ولأن تغدو
فتَعَلَّمَ بابا من العلم عُمِلَ به أو لم يُعْمَلْ به خير لك من أن تصلي ألف ركعة"
[رواه ابن ماجه بإسناد حسن في أبواب السنة وله شاهدان أخرجهما الترمذي].
وعن
عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يشفع يوم القيامة
ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء" [رواه ابن ماجه في كتاب الزهد].
وعن
ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد
الله بعبد خيراً فقهه في الدين وألهمه رشده" [رواه البزار والطبراني في "الكبير"
ورجاله موثوقون].
وعن
أبي بكرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أُغْدُ
عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محباً ولا تكن الخامسة فتهلك"، قال عطاء: قال
لي ابن مسعود: زدتنا خامسة لم تكن عندنا، والخامسة: أن تبغض العلم وأهله [رواه
الطبراني في الثلاثة والبزار ورجاله موثوقون، كذا في "مجمع الزوائد" ج1/ص122].
حكم
تعلم العلم:
ينقسم
العلم من حيث حكمه الشرعي إلى ثلاثة أقسام:
1ـ
مأمور به. 2ـ منهي عنه. 3ـ مندوب إليه.
أـ
العلوم المأمور بها:
وهي
صنفان:
الصنف
الأول: فرض عين، وهو ما لا يسقط عن المكلف إلا بقيامه به بنفسه.
لا
بد قبل تعداد العلوم المفروضة على المكلف فرض عين من أن نثبت بعض القواعد الأساسية
في هذا الموضوع منها قاعدة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)
ومنها
قاعدة: (العلم تابع للمعلوم). فالعلم الذي يُتوصل به إلى إقامة الفرض يكون فرضاً
والعلم الذي يتوصل به إلى إقامة الواجب يكون واجباً، والعلم الذي يُتوصل به إلى
إقامة السنة يكون سنة. وبناء على هذه القواعد نعدد بعض العلوم المفروضة فرض عين
على كل مكلف:
1ـ
تعلم عقيدة أهل السنة والجماعة مع الاستدلال الإجمالي على كل مسألة من مسائل
الإيمانيات، للخروج من ربقة التقليد، وللحفاظ على إيمانه أمام تشكيك الملحدين
ومغالطات الضالين.
2ـ
تعلم ما يستطيع به المكلف أداء المفروض عليه من العبادات كالصلاة والزكاة والحج
والصوم...
3ـ
مَنْ تعاطى شيئاً من المعاملات كالبيوع والإجارة والنكاح والطلاق... يفترض عليه
تعلم ما يتمكن معه من تجنب الحرام والتزام حدود الشرع.
4ـ
تعلم أحوال القلب من التوكل والخشية والرضا لأن المسلم واقع طيلة عمره في جميع
الأحوال القلبية.
5ـ
تعلم جميع الأخلاق الحسنة والسيئة كي يطبق الحسنة كالتوكل على الله والرضا عنه
والتسليم له والتواضع والحلم... إلخ، ويجتنب السيئة كالكبر والغرور والبخل والحسد
والحقد والرياء... إلخ [انظر بحث أهمية التصوف ص28] ومن ثَمَّ يجاهد نفسه على
تركها، إذ إن المجاهدة فرض على كل مكلف ولا يمكن حصولها إلا بمعرفة الأخلاق
المذمومة والممدوحة، ومعرفة طرق المجاهدات التي اشتغل بها السادة الصوفية، ولهذا
قال أبو الحسن الشاذلي: (من مات ولم يتغلغل في علمنا هذا مات مصراً على الكبائر
وهو لا يشعر) مع العلم أن الكبائر والفواحش منها ظاهرة كالزنا وشرب الخمر، ومنها
باطنة قلبية كالكبر والنفاق... ولهذا نهانا الله عنهما جميعاً بقوله: {ولا تقربوا
الفواحِشَ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ} [الأنعام: 151] ويتوب مرتكب الفواحش الظاهرة
لاطلاعه على ضررها، وأما الفواحش الباطنة فقد يعيش دهراً طويلاً ولا يفكر بالتوبة
منها لجهله بحكمها أو لعدم شعوره بها.
الصنف
الثاني: فرض كفاية، وهو ما إذا قام به البعض سقط التكليف عن الباقين، وإذا لم يقم
به أحد فالكل آثمون.
والعلوم
المفروضة كفائياً هي ما يتوقف عليها صلاح الأمة، كالتعمق في علم الفقه زيادة على
مقدار الحاجة [ولذلك لا بد في كل بلد من مُفْتٍ يكون مرجعاً للناس في أمور دينهم
يقوم بهذا الفرض الكفائي ويسقط الإثم عن الناس]، وكذلك علم التفسير والحديث، وأصول
الفقه، وأصول الاعتقاد. وكذلك علم الحساب والطب والصناعة وعلم السلاح لإعداد العدة..
إلخ.
ب
ـ العلوم المنهي عنها:
1ـ
فمنها الخوض في دراسة المذاهب الضالة والأفكار المشككة والعقائد الزائغة لا بنية
الرد عليها ودفع خطرها. أما تعلمها لبيان زيغها ورد شبهاتها تصحيحاً للعقائد
وذوداً عن الدين فهو فرض كفاية.
2ـ
علم التنجيم لمعرفة مكان المسروق ومواضع الكنوز ومكان الضالة ونحو ذلك مما
يزعمونه، وهو من الكهانة، وقد كذبهم الشرع وحرم تصديقهم. أما تعلم علم النجوم
للدراسات العلمية ولمعرفة مواقيت الصلاة والقِبلة فلا بأس به.
3ـ
علم السحر، إذا تعلمه للاحتراز عنه فيجوز ذلك كما قيل:
عرفت
الشر لا للشر لكن لتوقيه
ومن
لم يعرف الشر فإنه يقع فيه
جـ
ـ العلوم المندوب إليها:
ومنها
معرفة فضائل الأعمال البدنية والقلبية، ومعرفة النوافل والسنن والمكروهات، ومعرفة
فروض الكفاية، والتعمق في علوم الفقه وفروعها والعقائد وأدلتها التفصيلية... إلخ [انظر
تفصيل هذا الموضوع في كتاب "الطريقة المحمدية" للإمام البركوي، وكتاب "إحياء
علوم الدين" لحجة الإسلام الإمام الغزالي وغيرهما].
خاتمة:
تبين
مما سبق حكم العلم وأهميته في دين الله تعالى، وأن موقف السادة الصوفية من العلم
أمر واضح لا يحتاج إلى تدليل، فهم أهل العلوم والمعارف وأرباب القلوب المشرقة
والأرواح المنطلقة، وأهل التحقق بالإيمان والإسلام والإحسان. فبعد أن حصلوا العلوم
العينية عمدوا إلى تطبيق العلم على العمل، وقاموا بإصلاح القلب وتزكية النفس وصدق
التوجه إلى الله تعالى، ولهذا أكرمهم الله تعالى بالرضا والرضوان والمعرفة
والغفران.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق