وينبغي أن يكون الذاكر على أكمل الصفات، فإن كان جالساً
في موضع استقبل القِبلة متذللاً متخشعاً بسكينة ووقار، مطرقاً برأسه، ولو ذكر على
غير هذه الأحوال جاز ولا كراهة في حقه، ولكن إن كان بغير عذر كان تاركاً للأفضل. وينبغي
أن يكون الموضع الذي يذكر فيه خالياً نظيفاً، فإنه أعظم في احترام الذكر والمذكور،
ولهذا مُدح الذكر في المساجد والمواضع الشريفة. وينبغي أن يكون فمُه نظيفاً، وإن
كان به تغيُّرٌ أزاله بالسواك.
إذا كانت هذه النظافة الحسية قد نُدبنا إليها فإن نظافة
القلب الذي هو محل نظر الرب تبارك وتعالى أولى بالاعتبار، فلا بد من تنقيته من
أدرانه ؛ كالحقد والكبر، والبخل والرياء، والعلائق الدنيوية والأغيار والشواغل،
حتى يتأهل لمجالسة الحق فلا يزال في الفيض الأقدس مقيماً.
والذكر محبوب في جميع الأحوال، والمراد من الذكر حضور
القلب، فينبغي أن يلاحظ الذاكر ذلك ويتدبر معاني ما يذكر.
فإن كان يستغفر فعليه أن يلاحظ بقلبه طلب المغفرة والعفو
من الله تعالى، وإن كان يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فعليه أن يستحضر عظمة
رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلبه، وإن كان يذكر بالنفي والإثبات وهو "لا
إله إلا الله" فعليه أن ينفي كل شاغل يشغله عن الله تعالى. وعلى كلٌّ لا
يَترك الذكر باللسان لعدم حضور القلب، بل يذكر الله بلسانه ولو كان غافلاً بقلبه ؛
لأن غفلة الإنسان عن الذكر إعراض عن الله بالكلية، وفي وجود الذكر إقبال بوجهٍ ما،
وفي شغل اللسان بذكر الله تزيين له بطاعة الله، وفي فقده تعرضٌ لاشتغاله بأنواع
المعاصي القولية كالغيبة والنميمة وغيرها
يقول ابن عطاء الله السكندري: (لا تترك الذكر لعدم حضور
قلبك مع الله تعالى فيه، لأن غفلتك عن وجود ذكره، أشد من غفلتك في وجود ذكره، فعسى
أن يرفعك [الله] من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة
إلى ذكر مع وجود حضور، ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع وجود غَيْبَةٍ عما سوى
المذكور، وما ذلك على الله بعزيز) ["إيقاظ الهمم في شرح الحكم" لابن
عجيبة ج1/ص79].
فعلى الإنسان ملازمة الذكر باللسان حتى يفتح القلب،
وينتقل الذكر إليه، فيكون من أهل الحضور مع الله تعالى.
آداب
الذكر الجهري مع الجماعة:
الذكر الجهري له آداب ثلاثة: آداب سابقة، وآداب مقارنة،
وآداب لاحقة، وكل قسم من هذه الثلاثة له ظاهر وباطن.
1ـ فظاهر الآداب السابقة:
أن يكون الذاكر طاهر الثوب، طيب الرائحة متوضئاً، نقياً
من الحرام كسباً وغذاء.
وباطنها: أن يطهِّر قلبه بالتوبة الصادقة، ويتخلى عن
جميع الأمراض القلبية، ويتبرأ من حوله وقوته، ويدخل الحضرة متحققاً بذله وفقره
واحتياجه إلى نفحات الله وفضله.
2ـ وظاهر الآداب المقارنة:
أن يجلس حيث انتهى به المجلس إذا كان الإخوان جلوساً،
وإذا كانوا وقوفاً ذكر خلفهم بذكرهم حتى ينتبه له أقربهم ويفسح له ليدخل بينهم،
وينتظم في حلقتهم، فإذا أراد أن يخرج لعذر طارىء وصل بين مَنْ على جانبيه بلطف،
وخرج حتى لا يقطع عليهما اشتغالهما بالذكر، وأن يكون موافقاً لهم في وضعهم ؛ فلا
يشذ عنهم بمخالفة، وأن يجتهد في إخفاء صوته في أصواتهم حتى لا يكون مميَّزاً
بينهم، وأن يغمض عينيه حتى لا يشغله أحد عن حضور قلبه مع الله تعالى.
وباطنها: أن يجاهد في طرد وساوس الشيطان وهواجس النفس،
وأن لا يشغل قلبَه أُمورُ الدنيا، وأن يجتهد في الحضور بقلبه وهمته فيما هو فيه من
الذكر وما يَرِدُ عليه من واردات وأحوال، متهيئاً لما يَمنُّ الله به عليه من
تجليات إفضاله.
3ـ وظاهر الآداب اللاحقة:
أن يستمع بعد ذلك لعشر من القرآن الكريم وللمذاكرة
العلمية من الشيخ ؛ فيسمع بعض النصائح والتوجيهات منه، ويصمت عن الكلام في مختلف
الأمور الدنيوية وغيرها ما دام في مكان الذكر، ويمتنع عن الأعمال المنافية للآداب.
وبعد الانتهاء من المذاكرة والدعاء يسلم على شيخه وإخوانه إما بالمصافحة أو بتقبيل
اليد .
وباطنها: أن يصمت بقلبه عن الخواطر، ويصونه عن الالتفات،
منتظراً عطاء مولاه، ثم يخرج عاقداً همته، جامعاً نيته على أن يعود إلى أول مجلس
من مجالس ذكر الله تعالى يلي هذا الاجتماع.
فوائد الذكر إجمالاً
1ـ عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما قالا: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من قوم يذكرون الله، إلا حفتهم الملائكة،
وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده" [أخرجه مسلم في
كتاب الذكر، والترمذي في كتاب الدعاء وقال: حسن صحيح].
2ـ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "يقول الرب تبارك وتعالى: من شغله قراءة القرآن وذكري
عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" [أخرجه الترمذي وحسنه، والدارمي
والبيهقي. كما مرَّ في ص121].
3ـ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "يقول الرب يوم القيامة سيَعلَم أهلُ الجمع اليوم مَنْ أهل
الكرم. فقيل: ومن أهل الكرم يا رسول الله ؟ قال: أهل مجالس الذكر في المساجد"
[رواه الإمام أحمد وأبو يعلى والبيهقي وابن حبان في صحيحه. كما مرَّ في ص120].
4ـ وعن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
خرج على حَلْقةٍ من أصحابه فقال: "ما أجلسكم ؟ قالوا: جلسنا نذكر الله
ونحمده، فقال: أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة" [أخرجه مسلم
من حديث طويل في كتاب الذكر، والترمذي في كتاب الدعاء].
5ـ وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله إلا ناداهم منادٍ من السماء: قوموا
مغفوراً لكم قد بُدلت سيئاتكم حسنات" [أخرجه أحمد وغيره. ومرَّ عزوه في ص121].
6ـ وعن ثابت قال: كان سلمان في عصابة يذكرون الله، فمرَّ
النبي صلى الله عليه وسلم فكفوا، فقال: "ما كنتم تقولون ؟ قلنا: نذكر الله. قال:
إني رأيت الرحمة تنزل، فأحببت أن أشارككم فيها، ثم قال: الحمد لله الذي جعل في
أُمتي من أُمرت أن أصبر نفسي معهم" [أخرجه الإمام أحمد والحاكم وصححه].
قال ابن قيم الجوزية في فوائد الذكر: (وفي الذكر أكثر من
مائة فائدة:
إحداها: أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره.
الثانية: أنه يرضي الرحمن عز وجل.
الثالثة: أنه يزيل الهم والغم عن القلب.
الرابعة: أنه يجلب للقلب الفرح والسرور والبسط.
الخامسة: أنه ينور الوجه والقلب.
السادسة: أنه يقوي القلب والبدن.
السابعة: أنه يجلب الرزق.
الثامنة: أنه يكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنُضْرة.
التاسعة: أنه يورث المحبة التي هي روح الإسلام، وقطب رحى
الدين ومدار السعادة والنجاة، وقد جعل الله لكل شيء سبباً، وجعل سبب المحبة دوام
الذكر، فمن أراد أن ينال محبة الله تعالى فليلهج بذكره، فالذكر باب المحبة،
وشعارها الأعظم، وصراطها الأقوم.
العاشرة: أنه يورث المراقبة حتى يدخله في باب الإحسان،
فيعبد الله كأنه يراه، ولا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل
للقاعد إلى الوصول إلى البيت.
الحادية عشرة: أنه يورث الإنابة، وهي الرجوع إلى الله عز
وجل، فَمَنْ أكثر الرجوع إليه بذكره أورثه ذلك رجوعه بقلبه إليه في كل أحواله
فيبقي الله عز وجل مَفزعه وملجأه ومَلاذه ومعاذه، وقِبلة قلبه، ومَهْرَبَه عند
النوازل والبلايا.
الثانية عشرة: أنه يورث القرب منه، فعلى قدر ذكره لله عز
وجل يكون قربه منه، وعلى قدر غفلته يكون بُعده.
الثالثة عشرة: أنه يفتح له باباً عظيماً من أبواب
المعرفة، وكلما أكثر من الذكر ازداد من المعرفة.
الرابعة عشرة: أنه يورثه الهيبة لربه عز وجل وإجلاله،
لشدة استيلائه على قلبه، وحضوره مع الله تعالى، بخلاف الغافل، فإن حجاب الهيبة
رقيق في قلبه.
الخامسة عشرة: أنه يورثه ذكر الله تعالى له، كما قال
تعالى: {فاذكُرُونِي أذكُرْكُم} [البقرة: 152]. ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها
لكفى بها فضلاً وشرفاً. وقال صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى :
"من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم"
[من حديث أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد عن أبي هريرة رضي الله عنه،
ومرَّ في ص120 و125].
السادسة عشرة: أنه يورثه حياة القلب. وسمعت شيخ الإسلام
ابن تيمية قدس الله تعالى روحه يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال
السمك إذا فارق الماء ؟.
السابعة عشرة: أنه يورث جلاء القلب من صدأه، وكل شيء له
صدأ ؛ وصدأ القلب الغفلة والهوى، وجلاؤه الذكر والتوبة والاستغفار.
الثامنة عشرة: أنه يحط الخطايا ويذهبها، فإنه من أعظم
الحسنات، والحسنات يذهبن السيئات.
التاسعة عشرة: أنه يزيل الوحشة بين العبد وربه تبارك
وتعالى، فإن الغافل بينه وبين الله عز وجل وحشة لا تزول إلا بالذكر.
العشرون: أن العبد إذا تعرف إلى الله تعالى بذكره في
الرخاء، عرفه في الشدة، وقد جاء أثرٌ معناه: إن العبد المطيع الذاكر لله تعالى،
إذا أصابته شدة، أو سأل الله حاجة، قالت الملائكة: يا رب، صوتٌ معروفٌ من عبدٍ
معروفٍ. والغافل المعرض عن الله تعالى إذا دعاه وسأله قالت الملائكة: يارب، صوتٌ
منكَرٌ من عبدٍ منكَرٍ.
الحادية والعشرون: أنه مُنْجٍ من عذاب الله تعالى، كما
قال معاذ رضي الله عنه ويروى مرفوعاً: "ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب
الله عز وجل من ذكر الله تعالى" [رواه الترمذي في كتاب الدعاء ومرَّ في ص120].
الثانية والعشرون: أنه سبب تنزُّلِ السكينة، وغشيان
الرحمة، وحفوف الملائكة بالذاكر، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم [انظر صفحة
173 الحديث الأول].
الثالثة والعشرون: أنه سبب انشغال اللسان عن الغيبة
والنميمة، والكذب والفحش والباطل، فإن العبد لا بد له من أن يتكلم، فإن لم يتكلم بذكر
الله تعالى وذِكرِ أوامره تكلم بهذه المحرمات أو بعضها، ولا سبيل إلى السلامة منها
البتة إلا بذكر الله تعالى. والمشاهدة والتجربة شاهدان بذلك، فمن عوَّد لسانه ذكر
الله صان لسانه عن الباطل واللغو، ومن يبس لسانه عن ذكر الله ترطب بكل باطل ولغو
وفحش، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الرابعة والعشرون: أن مجالس الذكر مجالس الملائكة،
ومجالس اللغو والغفلة مجالس الشياطين، فليتخير العبد أعجبهما إليه وأولاهما به،
فهو مع أهله في الدنيا والآخرة.
الخامسة والعشرون: أنه يُسعِد الذاكر بذكره، ويُسعد به
جليسه وهذا هو المبارك أينما كان. والغافل واللاغي يشقى بلغوه وغفلته، ويشقى به
مُجالسه.
السادسة والعشرون: أنه يؤمِّن العبد من الحسرة يوم
القيامة، فإنَّ كل مجلس لا يذكر العبد فيه ربه تعالى كان عليه حسرة وتِرَةً يوم
القيامة [انظر صفحة 155 الحديث الأول والثاني].
السابعة والعشرون: أنه مع البكاء في الخلوة سبب لإظلال
الله تعالى العبد يوم الحر الأكبر في ظل عرشه [انظر صفحة 138 حديث: سبعة يظلهم
الله...].
الثامنة والعشرون: أن الاشتغال به سبب لعطاء الله للذاكر
أفضل ما يعطي السائلين، ففي الحديث عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "قال سبحانه وتعالى: من شغله قراءة القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته
أفضل ما أعطي السائلين" [انظر صفحة 121 الحديث العاشر].
التاسعة والعشرون: أنه أيسر العبادات، وهو من أجلِّها
وأفضلها، فإن حركة اللسان أخف حركات الجوارح وأيسرها، ولو تحرك عضو من أعضاء
الإنسان في اليوم والليلة بقدر حركة لسانه لشق عليه غاية المشقة، بل لا يمكنه ذلك.
الثلاثون: أنه غِراس الجنة، فقد روى الترمذي في جامعه من
حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقيت ليلة
أُسري بي إبراهيم الخليل عليه السلام فقال: يا محمد، أقرىء أُمتك السلام، وأخبرهم
أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غِراسها ؛ سبحان الله، والحمد
لله، ولا اله إلا الله، والله أكبر". قال الترمذي: حديث حسن غريب من حديث ابن
مسعود كما في كتاب الدعوات.
الحادية والثلاثون: أن العطاء والفضل الذي رتب عليه لم
يرتب على غيره من الأعمال، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "من قال لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك،
وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له
مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي،
ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه" [انظر صفحة 148 الحاشية].
ومن قال: "سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد
البحر".
الثانية والثلاثون: أن دوام ذكر الرب تبارك وتعالى يوجب
الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده، فإن نسيان الرب سبحانه
وتعالى يوجب نسيان نفسه ومصالحها. قال تعالى: {ولا تكونوا كالذينَ نًسُوا اللهَ
فأنساهُم أنفُسَهُم أولئِكَ هُمُ الفاسقونَ} [الحشر: 19].
الثالثة والثلاثون: أن الذكر يسيِّر العبد وهو في فراشه
وفي سوقه وفي حال صحته وسقمه، وفي حال نعيمه ولذته، وليس شيءٌ يعم الأوقات
والأحوال مثله، حتى إنه يسيِّر العبدَ وهو نائم على فراشه، فيسبق القائمَ مع
الغفلة، فيصبح هذا وقد قطع الركبَ، وهو مستلق على فراشه، ويصبح ذلك القائم الغافل
في ساقة الركب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وحكي عن رجل من العُباد أنه نزل برجل ضيفاً، فقام العابد
ليله يصلي، وذلك الرجل مستلق على فراشه، فلما أصبحا، قال له العابد: سبقك الركب. فقال:
ليس الشأن فيمن بات مسافراً وأصبح مع الركب، الشأن فيمن بات على فراشه وأصبح قد
قطع الركب.
وهذا ونحوه له محل صحيح ومحل فاسد، فمن حكم على أن
الراقد المضطجع على فراشه يسبق القائم القانت، فهو باطل، وإنما محله أن هذا
المستلقي على فراشه علق قلبه بربه عز وجل، وألصق حبة قلبه بالعرش، وبات قلبه يطوف
حول العرش مع الملائكة، قد غاب عن الدنيا وما فيها، وقد عاقه عن قيام الليل عائق
من وجع أو برد يمنعه عن القيام، أو خوف على نفسه من رؤية عدو يطلبه، أو غير ذلك من
الأعذار، فهو مستلق على فراشه ؛ وفي قلبه ما الله تعالى به عليم. وآخر قائم يصلي
ويتلو، وفي قلبه من الرياء والعجب وطلب الجاه والمحمدة عند الناس ما الله به عليم،
أو قلبه في وادٍ وجسمه في واد، فلا ريب أن ذلك الراقد يصبح وقد سبق هذا القائم
بمراحل كثيرة.
الرابعة والثلاثون: أن الذكر رأس الأصول، وطريق عامة
الطائفة الصوفية ومنشور الولاية، فمن فُتح له فيه فقد فتح له باب الدخول على الله
عز وجل، فليتطهر وليدخل على ربه يجدْ عنده كل ما يريد، فإن وجد ربه عز وجل وجد كل
شيء، وإن فاته ربه عز وجل فاته كل شيء.
الخامسة والثلاثون: أن الذكر شجرة تثمر المعارف والأحوال
التي شمَّر إليها السالكون، فلا سبيل إلى نيل ثمارها إلا من شجرة الذكر، وكلما عظمت
تلك الشجرة ورسخ أصلها كان أعظم لثمرتها، فالذكر يثمر المقامات كلها من اليقظة إلى
التوحيد، وهو أصل كل مقام وقاعدته التي يُبنى ذلك المقام عليها، كما تبنى الحائط
على أسسها، وكما يقوم السقف على حائطه، وذلك أن العبد إن لم يستيقظ لم يمكنه قطع
منازل السير، ولا يستيقظ إلا بالذكر كما تقدم، فالغفلة نوم القلب أو موته.
السادسة والثلاثون: أن الذاكر قريب من مذكوره، ومذكوره
معه، وهذه المعية معية خاصة، غير معية العلم والإحاطة العامة، فهي معية بالقرب
والولاية والمحبة، والنُصرة والتوفيق، كقوله تعالى: {إنَّ اللهَ مع الذينَ
اتَّقَوا والذينَ هُم مُحسِنُونَ} [النحل: 128]، {واللهُ معَ الصابرينَ} [العنكبوت:
69]، {وإنَّ اللهَ لَمَعَ المحسِنينَ} [الأنفال: 66]، {لا تحزَنْ إنَّ اللهَ معنا}
[التوبة: 40]. وللذاكر من هذه المعية نصيب وافر كما في الحديث الإلهي: "أنا
مع عبدي ما ذكرني، وتحركت بي شفتاه" [رواه الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم
وابن حبان وصححه. كما في "فيض القدير" ج1/ص309]، وفي أثر آخر: "أهل
ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا
أُقنِّطُهم من رحمتي، إن تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، فإني أُحب التوابين وأُحب
المتطهرين، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب"
[أخرجه الإمام أحمد في مسنده].
والمعية الحاصلة للذاكر معية لا يشبهها شيء، وهي أخص من
المعية الحاصلة للمحسن والمتقي، وهي معية لا تدركها العبارة ولا تنالها الصفة
وإنما تُعلَمُ بالذوق.
السابعة والثلاثون: أن أكرم الخلق على الله تعالى من
المتقين مَنْ لا يزال لسانه رطباً بذكره، فإنه اتقاه في أمره ونهيه، وجعل ذكره
شعاره، فالتقوى أوجبت له دخول الجنة، والنجاة من النار، وهذا هو الثواب والأجر،
والذكر يوجب له القرب من الله عز وجل والزلفى لديه، وهذه هي المنزلة.
الثامنة والثلاثون: أن في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر
الله تعالى، فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله تعالى.
وذكر حماد بن زيد: أن رجلاً قال للحسن: يا أبا سعيد،
أشكو إليك قسوة قلبي. قال: أَذِبْه بالذكر. وهذا لأن القلب كلما اشتدت به الغفلة
اشتدت به القسوة، فإذا ذكر الله تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في النار،
فما أذيبت قسوة القلوب بمثل ذكر الله تعالى.
التاسعة والثلاثون: أن الذكر شفاء القلب ودواؤه، والغفلة
مرضه، فالقلوب مريضة ودواؤها وشفاؤها ذكر الله تعالى، قال مكحول: (ذكر الله تعالى
شفاء، وذكر الناس داء) [رواه البيهقي عن مكحول مرسلاً بلفظ: (إن ذكر الله). كما في
"كشف الخفا" للعجلوني ج1/ص419]. وقيل:
إذا مرضنا تداوينا بذكركُم ونترك الذكر أحياناً فننتكسُ
الأربعون: أن الذكر أصل موالاة الله عز وجل ورأسها،
والغفلة أصل معاداته ورأسها، فإن العبد لا يزال يذكر ربه حتى يحبه فيواليه، ولا
يزال يغفل عنه حتى يبغضه فيعاديه. قال الأوزاعي: قال حسان بن عطية: ما عادى عبد
ربه بشيءٍ أشد عليه من أن يكره ذكره أو مَنْ يذكره. فهذه المعاداة سببها الغفلة،
ولا تزال بالعبد حتى يكره ذكر الله، ويكره من يذكره، فحينئذ يتخذه الله عدواً كما
اتخذ الذاكرَ وليَّاً.
الحادية والأربعون: أن مُدْمنَ الذكر يدخل الجنة وهو
يضحك، لِما ذُكر عن أبي الدرداء قال: (الذين لا تزال ألسنتهم رطبة بذكر الله عز
وجل، يدخل أحدهم الجنة وهو يضحك).
الثانية والأربعون: أن الذكر سَدٍّ بين العبد وبين جهنم،
فإذا كانت إلى جهنم طريق من عمل من الأعمال، كان الذكر سداً في تلك الطريق، فإذا
كان ذكراً دائماً كاملاً كان سداً محكماً لا ينفذ فيه، وإلا فبحَسَبِه.
الثالثة والأربعون: أن جميع الأعمال إنما شُرعت إقامةً
لذكر الله تعالى فالمقصود بها تحصيل ذكر الله تعالى، قال تعالى: {وأَقِمِ الصلاةَ
لِذكْرِي} [طه: 14] ["الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن قيم الجوزية. وما
يلفت النظر أن ابن عطاء الله السكندري ذكر هذه الفوائد نفسها في كتابه "مفتاح
الفلاح" ص30. فنقلها عنه ابن القيم مع شيء من التنسيق والإضافات البسيطة دون
أن يعزو ذلك إلى مصدره الأصلي "مفتاح الفلاح" لابن عطاء الله، والمعلوم
أن ابن عطاء الله توفي سنة 709هـ. بينما كانت وفاة ابن القيم سنة 751هـ].
ومن أراد التوسع في معرفة فوائد الذكر فعليه أن يرجع إلى
الكتب المطولة في الأذكار ككتاب "الأذكار" للإمام النووي رحمه الله، و"مفتاح
الفلاح" لابن عطاء الله السكندري، و"عمل اليوم والليلة" لجلال
الدين السيوطي وغيرها من كتب الأذكار.
والسادة الصوفية واظبوا على ذكر الله تعالى في جميع
أحوالهم، حتى لمسوا فوائده الكثيرة فتحدثوا عنه عن خبرة يقينية، ونصحوا غيرهم
بالإكثار من ذكر ربهم، من باب "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"
[أخرجه البخاري ومسلم في كتاب الإيمان عن أنس، والنسائي في كتاب الإيمان، والترمذي
في كتاب صفة القيامة].
يقول الحسن البصري إمام التابعين: (أحبُّ عباد الله إلى
الله أكثرهم ذِكراً وأتقاهم قلباً).
وقال ذو النون المصري: (ما طابت الدنيا إلا بذكره ولا
طابت الآخرة إلا بعفوه، ولا طابت الجنة إلا برؤيته).
يقول أبو سعيد الخراز رحمه الله: (إن الله تعالى عجل
بأرواح أوليائه التلذذ بذكره والوصول إلى قربه، وعجل بأبدانهم النعمة بما نالوه من
مصالحهم وأجزل نصيبهم من كل كائن، فعيش أبدانهم عيش الجنانيين [أهل الجنة]. وعيش
أرواحهم عيش الربانيين) ["حلية الأولياء" لأبي نعيم ج1/ص247].
والذكر على قسمين: ذكر العامة، وذكر الخاصة.
أما ذكر العامة: فهو ذكر الأجر والثواب: وهو أن يذكر
العبدُ مولاه بما شاء من ذكر، مع بقائه في صفاته المذمومة كالرياء والكبر، والعجب
والغرور، وغير ذلك.
وأما ذكر الخاصة: فهو ذكر الحضور، وهو أن يذكر العبد
مولاه بأذكار معلومة على صفة مخصوصة، لينال بذلك المعرفة بالله سبحانه، بطهارة
نفسه من كل خُلُق ذميم، وتحليتها بكل خلق كريم، طلباً للخروج من ظلمة الحس، وطمعاً
في إدراك الأسرار الروحانية. والأوْلى له اتخاذ سبحة، يحصي بها ما أراد من الأعداد
؛ فيسلم من تعب حصر مقدارها
فالذكر صقال قلوب المريدين، ومفتاح باب النفحات، وسبيل
توجه التجليات على القلوب، وبه يحصل التخلق بالأخلاق المحمدية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق