وحكم الذكر بالاسم المفرد:
ذكرُ الله تعالى بجميع صيغه دواء لأمراض القلوب وعلل
النفوس. فمن هذه الصيغ: لا إله إلا الله، ومنها الصلاة على النبي صلى الله عليه
وسلم، والاستغفار وبعض أسماء الله الحسنى، ومنها الاسم المفرد [الله]، وهكذا... وكل
هذه الأدوية مستخرجة من صيدلية القرآن والحديث.
وبما أن صيغ الأذكار كثيرة متنوعة، ولكل صيغة تأثير قلبي
خاص ومفعول نفسي معين، فإن مرشدي السادة الصوفية ـ أطباء القلوب وورَّاث الرسول
الأعظم صلى الله عليه وسلم في الدعوة والتوجيه والتربية ـ يأذنون لمريديهم بأذكار
معينة تتناسب مع أحوالهم وحاجاتهم، وترقيهم في السير إلى رضوان الله تعالى، وذلك
كما يعطي الطبيب الجسماني للمريض أنواعاً من الأدوية والعلاجات تتلاءم مع علله
وأسقامه، ثم يبدل له الدواء حسب تقدمه نحو الشفاء، ولهذا لا بد للمريد السالك أن
يكون على صلة بالمرشد، يستشيره ويذاكره، ويعرض عليه ما يجده في الذكر من فوائد
روحية، وأحوال قلبية، وحظوظ نفسية، وبذلك يترقى في السير، ويتدرج في السمو الخُلقي
والمعارف الإلهية.
حكم الذكر بالاسم المفرد [الله]:
أما الذكر بالاسم المفرد [الله] فجائز بدليل قول الله
تعالى:
{واذْكُرِ اسمَ ربِّكَ وتبتَّلْ إليه تبتيلاً} [المزمل: 8].
وقوله تعالى: {واذْكُرِ اسمَ ربِّكَ بكرةً وأصيلاً} [الدهر: 25].
وقد ورد في الحديث الشريف الذي رواه أنس بن مالك عن
النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله"
[أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، والترمذي في كتاب الفتن، وقال: حديث حسن،
والإمام أحمد في مسنده]. فهذا اسم مفرد ورد ذكره مكرراً في هذا الحديث.
وفي رواية أخرى عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة على أحدٍ يقول: الله، الله" [أخرجه
مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، والترمذي في كتاب الفتن، وقال: حديث حسن، والإمام
أحمد في مسنده]. قال العلامة علي القاري في شرح هذا الحديث: (أي لا يُذكَرُ الله
فلا يبقى حكمة في بقاء الناس، ومن هذا يُعرَفُ أن بقاء العالم ببركة العلماء
العاملين والعُبَّاد الصالحين وعموم المؤمنين، وهو المراد بما قال الطيبي رحمه
الله: معنى حتى لا يُقالَ [الله، الله]: حتى لا يُذكَرَ اسمُ الله ولا يُعبَد)
["مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" لملا علي القاري ج5/ص226].
ثم إن الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي رَغَّبَتْ
في الذكر جاءت عامة ومطلقة لم تخصص ذكراً معيناً، ولم يرد نص شرعي يُحَرِّمُ
الذكرَ بالاسم المفرد [الله].
ومن هنا يظهر خطأ بعض المتسرعين بالاعتراض على الذكر
بالاسم المفرد بحجة أنه لم يَرِدْ به نص في الكتاب والسنة، مع أن النصوص المذكورة
آنفاً ظاهرة جلية كما بينا.
واعترض بعضهم أيضاً على الذكر بالاسم المفرد بحجة أنه لا
يؤلف جملة تامة مفيدة كما في قولنا: الله جليل
والجواب على ذلك: أن الذاكر بهذا الاسم المفرد لا يكلم
مخلوقاً فلا يُشترط أن يكون كلامه تاماً مفيداً ؛ لأنه يذكر الله سبحانه الذي هو
عالم بنفسه مطلع على قلبه. ولقد نص جمهور العلماء على جواز الذكر بالاسم المفرد [الله]،
وإليك بعض أقوالهم:
يقول العلامة ابن عابدين في حاشيته الشهيرة عند شرح
البسملة وبحثه عن لفظة [الله]: (روى هشام عن محمد عن أبي حنيفة أنه [أي الله] اسم
الله الأعظم، وبه قال الطحاوي، وكثير من العلماء وأكثر العارفين حتى إنه لا ذكر
عندهم لصاحب مقام فوق الذكر به، كما في "شرح التحرير" لابن أمير حاج) [حاشية
ابن عابدين ج1/ص5].
وقال العلامة الخادمي: (واعلم أن اسم الجلالة [الله] هو
الاسم الأعظم عند أبي حنيفة والكسائي والشعبي وإسماعيل بن إسحق وأبي حفص وسائر
جمهور العلماء، وهو اعتقاد جماهير مشايخ الصوفية ومحققي العارفين، فإنه لا ذكر
عندهم لصاحب مقام فوق مقام الذكر باسم [الله] مجرداً. قال الله لنبيه عليه الصلاة
والسلام: {قُلِ اللـهُ ثُمَّ ذرهُمْ} [الأنعام: 91]).
وقال العلامة المحدث المناوي شارحاً حديث رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يقول: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه"
[أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه، وابن حبان في صحيحه عن أبي
هريرة رضي الله عنه]: (فهو مع من يذكره بقلبه، ومع من يذكره بلسانه، لكن معيته مع
الذكر القلبي أتم، وخص اللسان لإفهامه دخول الأعلى بالأوْلى، لكن محبته وذكره لما
استولى على قلبه وروحه وصار معه وجليسه. ولزوم الذكر عند أهل الطريق من الأركان
الموصلة إلى الله تعالى، وهو ثلاثة أقسام: ذكر العوام باللسان، وذكر الخواص
بالقلب، وذكر خواص الخواص بفنائهم عن ذكرهم عند مشاهدتهم مذكورهم، حتى يكون الحق
مشهوداً لهم في كل حال.
قالوا: وليس للمسافر إلى الله في سلوكه أنفع من الذكر
المفرد القاطع من الأفئدة الأغيارَ، وهو [الله] وقد ورد في حقيقة الذكر وتجلياته
ما لا يفهمه إلا أهل الذوق) ["فيض القدير شرح الجامع الصغير" للعلامة
المناوي ج2/ص309].
وقال الإمام الجنيد رحمه الله: (ذاكر هذا الاسم [الله] ذاهب
عن نفسه، متصل بربه، قائم بأداء حقه، ناظرٌ إليه بقلبه، قد أحرقت أنوار الشهود
صفات بشريته) ["نور التحقيق" ص174].
وقال سيدي أبو العباس المرسي رحمه الله: (ليكن ذكرك [الله،
الله]، فإن هذا الاسم سلطان الأسماء، وله بساط وثمرة، فبساطه العلم، وثمرته النور،
وليس النور مقصوداً لذاته ؛ بل لِما يقع به من الكشف والعيان، فينبغي الإكثار من
ذكره، واختياره على سائر الأذكار، لتضمنه جميع ما في [لا اللهه إلا الله] من
العقائد والعلوم والآداب والحقائق... إلخ) ["نور التحقيق" ص 174].
وقال العارف بالله ابن عجيبة: (فالاسم المفرد[الله] هو
سلطان الأسماء، وهو اسم الله الأعظم، ولا يزال المريد يذكره بلسانه ويهتز به حتى
يمتزج بلحمه ودمه، وتسري أنواره في كلياته وجزئياته... إلى أن قال: فينتقل الذكر
إلى القلب ثم إلى الروح ثم إلى السر، فحينئذ يخرس اللسان ويصل إلى الشهود والعيان)
["تجريد ابن عجيبة على شرح متن الأجرومية" ص15].
فتمسَّكْ أيها المريد الصادق بذكر الاسم المفرد [الله] إذا
كنت مأذوناً به من مرشد كامل، فإنه أسرع في قلع عروق النفس من منابتها من السكين
الحاد.
وأما ما يراه المريد في أول سيره أثناء ذكره لهذا الاسم
من حرارة وضيق فلأن نفسه لا حَظَّ لها من هذا الذكر، حيث إن هذا الاسم يزيل عالم
الخلق من القلب ويفرغه من الأكوان.
لذا نرى المربين الكمل يأمرون مريديهم بذكر [لا إله إلا
الله] في بادىء أمرهم، فإذا تمكن النفي والإثبات من قلوبهم نقلوهم إلى ذكر الاسم
المفرد، وأوصوهم بملازمته ومجاهدة النفس على تحمل مرارته.
فإن لم يصبروا على هذه المرارة في ابتداء أمرهم وأهملوا
ذكر الاسم المفرد وقفوا في سيرهم وحُرِموا خيراً عظيماً بسبب فساد عزيمتهم وضعف
إرادتهم.
أما إذا عزموا على ذكر هذا الاسم وصبروا واستقاموا عليه
انطبع هذا الاسم في قلوبهم وارتحلت عنهم الغفلة حتى يكون الاسم سارياً في عروقهم
ممزوجاً بأرواحهم، ويكون المذكور تجاههم لا يغفلون إذا غفل الناس، وعندها يتحققون
بمقام الإحسان الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "الإحسان
أن تعبد الله كأنك تراه...".
الذكر المقيد
والذكر المطلق:
أما الذكر المقيد: فهو الذي ندبَنا إليه رسول الله صلى
الله عليه وسلم مقيَّداً بزمان خاص أو مكان خاص ؛ كالذكر بعد أداء كل صلاة، من
تسبيح وتحميد وتكبير، وأذكار المسافر والآكل والشارب، وأذكار النكاح، وأذكار تقال
عند الشدة ودفع الآفات والمصائب، وعند المرض والموت وما يتعلق بهما، وبعد صلاة
الجمعة وليلتها، وعند رؤية الهلال، وإفطار الصائم، وأذكار الحج بأنواعها، وأذكار
تقال في الصباح والمساء، وعند النوم والاستيقاظ، وأذكار الجهاد في سبيل الله،
وأذكار متفرقة: عند صياح الديك، ونهيق الحمار، وأذكار عند رؤية مبتلى بمرض وغيره.
هذه نبذ قليلة من الأذكار المقيدة، وإن أردت استيعابها
فارجع إلى كتب الأذكار.
وأما الذكر المطلق: فهو ما لم يقيد بزمان ولا مكان، ولا
وقت ولا حال، ولا قيام ولا قعود، فالمطلوب من المؤمن أن يذكر ربه في كل حال حتى لا
يزال لسانه رطباً بذكر الله، والآيات في ذلك كثيرة منها قوله تعالى: {فاذكُرُوني
أذكُرْكُم} [البقرة: 152]. وقوله تعالى: {يُسَبِّحون الليل والنَّهارَ لا
يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]. وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكُروا اللهَ
ذكراً كثيراً وسَبِّحُوه بُكرة وأصيلاً} [الأحزاب: 41ـ42]. وقوله تعالى: {والذاكرين
الله كثيراً والذاكراتِ أعدَّ اللهُ لهُمْ مغفِرَةً وأجراً عظيماً} [الأحزاب: 35].
وغيرها من الآيات التي تدعو إلى الإكثار من ذكر الله مطلقاً دون تقييد بزمان ومكان،
كما أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ندبنا إلى ذكر الله مطلقاً في جميع
أحوالنا وأوقاتنا.
فقد روى عبد الله بن بسر رضي الله عنه، أن رجلاً قال: يا
رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثُرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبثُ به، قال: "لا
يزالُ لسانُك رَطباً من ذكر الله" [رواه الترمذي في كتاب الدعوات وقال: حديث
حسن].
وقد وصفت السيدة عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله
عليه وسلم بقولها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله في كل أحيانه) [أخرجه
مسلم في كتاب الطهارة وفي كتاب الفضائل، والترمذي في كتاب الدعوات، وأبو داود وابن
ماجه في كتاب الطهارة].
وقد دعانا عليه الصلاة والسلام في أحاديثَ كثيرةٍ إلى
أنواع من صيغ الذكر من تسبيح وتهليل وتكبير واستغفار، دون أن يحدد لها وقتاً
معيناً، أو مناسبة خاصة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لم يفرض الله تعالى على
عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر،
فإنه لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله،
وأمرَهُم بذكره في الأحوال كلها، فقال عز من قائل: {فاذْكُروا اللهَ قياماً
وقعوداً وعلى جُنُوبِكُم} [النساء: 103]. وقال تعالى: {يا أيُّها الذين آمنوا
اذكروا اللهَ ذكراً كثيراً} [الأحزاب: 41]. أي بالليل والنهار، وفي البر والبحر،
والسفر والحضر، والغنى والفقر، وفي الصحة والسقم، والسر والعلانية، وعلى كل حال ["نور
التحقيق" ص147]. وقد نهج الصوفية على هذا المنوال فذكروا الله في جميع
أحوالهم وأطوارهم.
وكما أن الذكر منه مقيد بزمن، ومنه مطلق عن ذلك، فكذلك
الذكر منه مقيد بعدد، ومنه مطلق عن العدد.
أما المقيد بالعدد فكالتسبيح دبر كل صلاة، وكالتحميد
والتكبير...
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "مَنْ سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً
وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ؛ غفرت خطاياه
وإن كانت مثل زبد البحر" [رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب المساجد ومواضع
الصلاة].
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كنا عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيعجز أحدكم أن يكسب في كل يوم ألف حسنة ؟
فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة ؟ قال: يُسبح مائة تسبيحة فتُكتَب
له ألفُ حسنة، أو تُحَط عنه ألفُ خطيئة" [رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب
الذكر والدعاء].
وعن الأغَرِّ بن يسار المُزَني رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه،
فإني أتوب في اليوم مائة مرة" [رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الذكر
والدعاء].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو
وعلى كل شيء قدير في يوم مائة مرة، كانت له عدلَ عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة،
ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد
بأفضلَ مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه" [رواه البخاري في صحيحه في كتاب
الدعوات ومسلم في كتاب الذكر].
يقول ابن علان في شرحه لهذا الحديث: (قال القاضي عياض: ذِكْرُ
هذا العدد من المئة، وهذا الحصر لهذه الأذكار دليل على أنها غاية وحدٍّ لهذه
الأجور، ثم نبَّه صلى الله عليه وسلم بقوله: "ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به
إلا رجل عمل أكثر منه" إلى أنه يجوز أن يُزاد على هذا العدد، فيكون لقائله من
الفضل بحسب ذلك لئلا يُظن أنها من الحدود التي نُهي عن اعتدائها، وأنه لا فضل
للزيادة عليها كالزيادة على ركعات السنن المحدودة وأعداد الطهارة.
وبالغ آخرون فقالوا: إن الثواب الموعود به موقوف على
العدد المذكور.
قال ابن الجوزي: وهذا غلط ظاهر، وقول لا يُلتفت إليه، بل
الصواب أنه كما قال الشاعر: ومن زاد زاد الله في حسناته) ["الفتوحات الربانية
على الأذكار النواوية" ج1/ص209 للعلامة ابن علان الصديقي توفي سنة 1057هـ].
وأما الذكر المطلق عن العدد: فهو الذي وجهنا الله تعالى
إلى الإكثار منه في جميع أحوالنا وأوقاتنا دون تقييده بعدد مخصوص، كما في قوله
تعالى: {يا أيُّها الذين آمنوا اذكروا اللهَ ذكراً كثيراً} [الأحزاب: 41]. وكلما
علت همة المؤمن وزادت محبته لله تعالى أكثر من ذكره، لأن من أحب شيئاً أكثر من
ذكره.
ولا بأس للمرشد الموجه أن يُرغِّبَ المريدَ بأعداد معينة
من الأذكار ليرفع من همته ويشد من عزيمته، ويدفع عنه الإهمال والتقاعس، وحتى يكون
من المكثرين من ذكر الله تعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق