أهمية صحبة الوارث المحمدي للترقي في مدارج الكمال،
وتلقي دروس الآداب والفضائل، واكتشاف العيوب الخفية والأمراض القلبية.
ولكن قد يسأل سائل: كيف الاهتداء إليه ؟ والوصول إلى
معرفته ؟ وما هي شروطه وأوصافه ؟ فنقول:
1ـ حين يشعر الطالب بحاجته إليه كشعور المريض بحاجته إلى
الطبيب، عليه أن يصدق العزم، ويصحح النية، ويتجه إلى الله تعالى بقلب ضارع منكسر،
يناديه في جوف الليل، ويدعوه في سجوده وأعقاب صلاته: (اللهم دلَّني على من يدلني
عليك، وأوصلني إلى من يوصلني إليك).
2ـ عليه أن يبحث في بلده، ويفتش ويسأل عن المرشد بدقة
وانتباه غير ملتفت لما يشيعه بعضهم من فقد المرشد المربي في هذا الزمن [يقول ابن
عجيبة: (والناس في إثبات الخصوصية ونفيها على ثلاثة أقسام:
1ـ قسم أثبتوها للمتقدمين ونفوها عن المتأخرين ؛ وهم
أقبح العوام.
2ـ وقسم أقروها قديماً وحديثاً، وقالوا: إنهم أخفياء في
زمانهم، فحرمهم الله بركتهم.
3ـ وقوم أقروا الخصوصية في أهل زمانهم، مع إقرارهم
بخصوصية السلف، وعرفوهم، وظفروا بهم، وعظموهم ؛ وهم السعداء الذين أراد الله أن
يرحلهم إليه ويقربهم إلى حضرته، وفي الحكم: (سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه
إلا من حيث الدليل عليه ؛ ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه). وبهذا
يُرَدُّ على من زعم أن شيخ التربية انقطع، فإن قدرة الله تعالى عامة، وملك الله
قائم ؛ والأرض لا تخلو ممن يقوم بالحجة حتى يأتي أمر الله) "البحر المديد في
تفسير القرآن المجيد" لابن عجيبة ج1/ص77.
ويحضرني في هذا الموضوع أبيات لبعضهم يَردُّ فيها على من
يدَّعي أن المرشدين قد عدموا في هذا العصر أو قلُّوا، قال:
يقول قوم عن هداهم ضلوا قد عُدموا في عصرنا أو قَلُّوا
فقلت: كلا إنما قد جَلُّوا عن أن تراهم أعين الجهال
وقد أدركنا والحمد لله في زمننا هذا رجالاً عارفين
مرشدين قد توفرت فيهم شروط التربية على الكمال، ذوي همة وحال ومقال، تخرَّج على
أيديهم خلق كثير، وانتفع بهم جم غفير، ولكن الخفاش لا يستطيع أن يبصر النور].
فإذا لم يجد أحداً في مدينته فليبحث عنه في مدن أخرى،
ألا ترى المريض يسافر إلى بلدة ثانية للتداوي إذا لم يجد الطبيب المختص، أو حين
يعجز أطباء مدينته عن تشخيص دائه، ومعرفة دوائه. ومداواة الأرواح تحتاج إلى أطباء
أمهر من أطباء الأجسام.
وللمرشد شروط لا بد منها حتى يتأهل لإرشاد الناس وهي
أربعة:
1ـ أن يكون عالماً بالفرائض العينية.
2ـ أن يكون عارفاً بالله تعالى.
3ـ أن يكون خبيراً بطرائق تزكية النفوس ووسائل تربيتها.
4ـ أن يكون مأذوناً بالإرشاد من شيخه.
1ـ أما الشرط الأول: فينبغي أن يكون المرشد عالماً
بالفرائض العينية: كأحكام الصلاة والصوم والزكاة إن كان مالكاً للنصاب، وأحكام
المعاملات والبيوع إن كان ممن يتعاطى التجارة... الخ. وأن يكون عالماً بعقيدة أهل
السنة والجماعة في التوحيد، فيعرف ما يجب لله تعالى، وما يجوز وما يستحيل إجمالاً
وتفصيلاً، وكذلك في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهكذا سائر أركان الإيمان.
2ـ وأما الشرط الثاني: فينبغي أن يتحقق المرشد بعقيدة
أهل السنة عملاً وذوقاً بعد أن عرفها علماً ودراية، فيشهد في قلبه وروحه صحتها،
ويشهد أن الله تعالى واحد في ذاته، واحد في صفاته، واحد في أفعاله، ويتعرف على
حضرات أسماء الله تعالى ذوقاً وشهوداً، ويرجعها إلى الحضرة الجامعة، ولا يشتبه
عليه تعدد الحضرات، إذ تعدد الحضرات لا يدل على تعدد الذات.
3ـ وأما الشرط الثالث: فلا بد أن يكون قد زَكَّى نفسه
على يد مربٍ ومرشد، فخبَرَ مراتب النفس وأمراضها ووساوسها، وعرف أساليب الشيطان
ومداخله. وآفات كل مرحلة من مراحل السير، وطرائق معالجة كل ذلك بما يلائم حالة كل
شخص وأوضاعه.
4ـ وأما الشرط الرابع: فلا بد للمرشد من أن يكون قد
أُجيز من شيخه بهذه التربية وهذا السير، فمن لم يشهد له الاختصاصيون بعلم يَدَّعيه
لا يحق له أن يتصدر فيه، فالإجازة: هي شهادة أهلية الإرشاد وحيازة صفاته وعليها
أُسِّسَتْ الآن فكرة المدارس والجامعات، فكما لا يجوز لمن لا يحمل شهادة الطب أن
يفتح عيادة لمداواة المرضى، ولا يصح لغير المجاز في الهندسة أن يرسم مخططاً للبناء،
وكما لا يجوز للذي لا يحمل شهادة أهلية التعليم أن يُدَرِّس في المدارس والجامعات،
فكذلك لا يجوز أن يدَّعي الإرشاد غير مأذون له به من قِبَلِ مرشدين مأذونين
مؤهَّلين، يتصل سندهم بالتسلسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [على غرار علماء
الحديث الذين تناقلوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسند رجلاً عن رجل
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتبروا السند أساساً لحفظ السنة النبوية من
الضياع والتحريف ولهذا قال ابن المبارك: (الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من
شاء ما شاء)].
وكما أنه لا يصح من العاقل أن يتداوى عند جاهل بالطب،
كذلك لا يجوز للمرء أن يركن إلى غير المرشد المأذون المختص بالتوجيه والإرشاد، وكل
من درس الوضع العلمي في الماضي يعرف قيمة الإجازة من الأشياخ وأهمية التلقي عندهم،
حتى إنهم أطلقوا على من لم يأخذ علمه من العلماء اسم (الصحفي)، لأنه أخذ علمه من
الصحف والمطالعة الخاصة، قال ابن سيرين رحمه الله:
(إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) [رواه مسلم
في مقدمة صحيحه عن محمد بن سيرين].
وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمر رضي الله
عنهما بذلك فقال:
(يا ابن عمر دينَك دينَك إنما هو لحمك ودمك فانظرْ عمن
تأخذ، خذ الدين عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا) [أخرجه الحافظ ابن
عدي عن ابن عمر كذا في "كنز العمال" ج3/ص152].
وقال بعض العارفين:
(العلم روح تُنفخ لا مسائل تُنسخ، فلْيَنْتبه المتعلمون
عمن يأخذون، ولْيَنْتبه العالِمون لمن يُعطون).
ثم اعلم أن من علامات المرشد أموراً يمكن ملاحظتها:
ـ منها: أنك إذا جالسته تشعر بنفحة إيمانية، ونشوة
روحية، لا يتكلم إلا لله، ولا ينطق إلا بخير، ولا يتحدث إلا بموعظة أو نصيحة،
تستفيد من صحبته كما تستفيد من كلامه، تنتفع من قربه كما تنتفع من بعده، تستفيد من
لحظه كما تستفيد من لفظه.
ـ ومنها: أن تلاحظ في إخوانه ومريديه صور الإيمان
والإخلاص والتقوى والتواضع، وتتذكر وأنت تخالطهم المُثُلَ العليا من الحب، والصدق
والإيثار والأخوة الخالصة، وهكذا يُعرف الطبيب الماهر بآثاره ونتائج جهوده، حيث
ترى المرضى الذي شُفوا على يديه، وتخرجوا من مصحه بأوفر قوة، وأتم عافية.
علماً أن كثرة المريدين والتلاميذ وقلتهم ليست مقياساً
وحيداً، وإنما العبرة بصلاح هؤلاء المريدين وتقواهم، وتخلصهم من العيوب والأمراض
واستقامتهم على شرع الله تعالى.
ـ ومنها: أنك ترى تلامذته يمثلون مختلف طبقات الأمة،
وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالظفر به يدفع الطالب للأخذ بيده، والتزام مجالسه،
والتأدب معه، والعمل بنصحه وإرشاده، في سبيل الفوز بسعادة الدارين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق