تمهيد
الذكر يثمر المقامات كلها من اليقظة إلى التوحيد، ويثمر
المعارف والأحوال التي شمَّر إليها السالكون، فلا سبيل إلى نيل ثمارها إلا من شجرة
الذكر، وكلما عظمت تلك الشجرة ورسخ أصلها، كان أعظم لثمرتها وفائدتها...
وهو أصل كل مقام وقاعدته التي يبني عليها، كما يُبنى
الحائط على أساسه، وكما يقوم السقف على جداره.
وذلك أن العبد إن لم يستيقظ من غفلته لم يمكنه قطع منازل
السير الموصلة إلى معرفة الله تعالى التي خُلِقَ الإنسان لأجلها، قال تعالى: {وما
خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلا ليعبدونِ} [الذاريات: 56] [قال ابن عباس رضي الله
عنهما: يعبدون أي: يعرفون]. ولا يستيقظ المرء إلا بالذكر، فالغفلة نوم القلب أو
موته.
وإن امتثال الصوفية لأمر مولاهم عز وجل بالإكثار من ذكره
جعل حياتهم كحياة الملائكة، لا تخطر الدنيا على قلوبهم، ولا تشغلهم عن محبوبهم،
نسوا أنفسهم بمجالستهم لربهم، وغابوا عن كل شيء سواه فتواجدوا عندما وجدوا.
ذَكرْتُكَ، لا أني نسيتُكَ لمحةًوأيسرُ ما في الذكرِ
ذكرُ لِساني يذكر الصوفي ربه في كل أحيانه، فيجد بذلك انشراح الصدر، واطمئنان
القلب، وسمو الروح ؛ لأنه حظي بمجالسة ربه عز وجل "أهل ذكري أهل مجالستي... الحديث"
[من حديث قدسي أخرجه الإمام أحمد في مسنده].
فالعارف من داوم على الذكر وأعرض بقلبه عن متع الدنيا
الزائلة، فتولاه الله في جميع شؤونه. ولا عجب، فمن صبر ظفر، ومن لازم قرع الباب
يوشك أن يفتح له.
معاني كلمة الذكر
أطلقت الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية
الشريفة كلمة "الذكر" على عدة معان: فتارة قُصِدَ بها القرآن الكريم كما
في قوله تعالى: {إنَّا نحن نزّلنا الذِّكرَ وإنّا لهُ لَحافظونَ} [الحجر: 9]. وتارة
قُصِدَ بها صلاة الجمعة: {يا أيُّها الذين آمنوا إذا نُودِيَ للصلاة من يوم الجمعة
فاسعَوا إلى ذكرِ اللهِ} [الجمعة: 9]. وفي موطن آخر عُنِيَ بها العلم: {فاسألوا
أهل الذكر إنْ كنتم لا تعلمونَ} [الأنبياء: 7]. وفي معظم النصوص أُريدَ بكلمة "الذكر"
التسبيحُ والتهليل والتكبير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وما إلى هنالك
من الصيَغ، كما في قوله تعالى: {فإذا قَضيتُمُ الصلاةَ فاذكروا اللهَ قياماً
وقعوداً وعلى جنوبِكُم} [النساء: 102]. وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا
لقيتُمْ فِئةً فاثبتوا واذكروا اللهَ كثيراً} [الأنفال: 45]. وقوله تعالى: {واذكُرِ
اسمَ ربِّكَ وتَبَتَّلْ إليهِ تبتيلاً} [المزمل: 8].
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "إن الله عز وجل يقول: أنا مع عبدي إذا هو ذَكرني وتحركت بي شفتاه"
[رواه ابن ماجه في كتاب الأدب وابن حبان في صحيحه. والإمام أحمد في مسنده والحاكم
كما في "فيض القدير" ج1/ص309].
وعن عبد الله بن بِسر أن رجلاً قال: (يا رسول الله إن
شرائع الإسلام قد كَثُرَتْ عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبث به). قال: "لا يزال
لسانُك رَطْباً من ذكر الله" [رواه الترمذي في كتاب الدعوات وقال: حديث حسن].
أما ما يقوله بعضهم: (إن المراد بالذكر هو العلم بالحلال
والحرام)، فجوابه: (أن لفظ الذكر مشترك بين العلم والصلاة والقرآن وذكر الله
تعالى، لكن المعتبر في اللفظ المشترك ما غلب استعماله فيه عرفاً، وغيره إنما يصرف
إليه بقرينة حالية أو لفظية، ولفظ الذكر قد غلب استعماله في ذكر الله حقيقة، ومن
غير الغالب أن يطلق ويراد به العلم، كما قال تعالى: {فاسألوا أهل الذكر} فالمراد
به العلم بقرينة السؤال.
1ـ أما من الكتاب:
1ـ فقد قال تعالى: {فاذكُرُوني أذكُرْكُم} [البقرة: 152].
2ـ وقال تعالى: {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى
جُنوبهم} [آل عمران: 191].
3ـ وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً
كثيراً وسَبِّحُوه بكرةً وأصيلاً} [الأحزاب: 41ـ42].
4ـ وقال تعالى: { واذكرْ ربَّك كثيراً وسبِّحْ بالعشي
والإبكار) [آل عمران: 41].
5ـ وقال عز من قائل: { الذين آمنوا وتطمئِنُّ قُلوبُهم
بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب } [الرعد: 28].
6ـ قال أيضاً: {واذكُرِ اسمَ ربِّكَ بُكرَةً وأصيلاً} [الدهر:
25].
7ـ وقال أيضاً: { واذكر اسم ربِّك وتبتَّل إليه تبتيلاً}
[المزمل: 8].
8ـ وقال جل شأنه: { وَلَذِكرُ الله أكبرُ} [العنكبوت: 45].
9ـ وقال أيضاً: { فإذا قضيتُمُ الصلاة فاذكروا الله
قياماً وقعوداً وعلى جُنوبِكُم} [النساء: 103].
10ـ وقال أيضاً: { فإذا قُضيتِ الصلاةُ فانتَشروا في
الأرضِ وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلَّكُم تُفلحون} [الجمعة: 10].
11ـ وقال أيضاً: { ومن أظلمُ مِمَّنْ مَنَعَ مساجدَ الله
أن يُذْكَرَ فيها اسمُه} [البقرة: 114].
12ـ وقال تعالى: { في بيوتٍ أَذِنَ الله أن تُرفعَ
ويُذكر فيها اسمُهُ} [النور: 36].
13ـ وقال أيضاً: { رِجال لا تُلهيهم تجارة ولا بيعٌ عن
ذكرِ اللهِ} [النور: 37].
14ـ وقال أيضاً: {يا أيها الذين آمنوا لا تُلهِكُم
أموالُكم ولا أولادُكم عن ذكر الله } [المنافقون: 9].
15ـ وقال أيضاً: {والذاكرين الله كثيراً والذاكراتِ أعدّ
اللهُ لهُم مغفِرَةً وأجراً عظيماً } [الأحزاب: 35].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (المراد: يذكرون الله في
أدبار الصلوات، وغدواً وعشياً وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا أو راح من منزله،
ذكر الله تعالى) ["الفتوحات الربانية على الأذكار النووية" ج1/ص106 ـ 109].
وقال مجاهد: (لايكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات
حتى يذكر الله تعالى قائماً وقاعداً ومضجعاً) ["الفتوحات الربانية على
الأذكار النووية" ج1/ص106 ـ 109].
وجميع العبادات يشترط لصحتها شروط إلا ذكر الله تعالى،
فإنه يصح بطهارة وغيرها وفي جميع الحالات: في القيام والقعود... وغيرها.
ولهذا قال النووي: (أجمع العلماء على جواز الذكر بالقلب
واللسان للمُحْدِث والجنب والحائض والنفساء، وذلك في التسبيح والتحميد والتكبير
والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعاء ونحو ذلك) ["الفتوحات
الربانية على الأذكار النووية" ج1/ص106ـ109].
فالذكر صقال القلوب، ومفتاح باب النفحات، وسبيل توجه
التجليات على القلوب، وبه يحصل التخلق، لا بغيره. لذلك فالمريد لا يصيبه غم أو هم
أو حزن إلا بسبب غفلته عن ذكر الله، ولو اشتغل بذكر الله لدام فرحه وقرت عينه، إذ
الذكر مفتاح السرور والفرح، كما أن الغفلة مفتاح الحزن والكدر.
2ـ وأما من السنة:
1ـ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال النبي
صلى الله عليه وسلم:
"مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربَّهُ مثل الحي
والميت" [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الدعوات].
2ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
"إن لله ملائكةً يطوفون في الطرق يلتمسون أهل
الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم. قال: فيحفونهم
بأجنحتهم إلى السماء الدنيا. قال: فيسألهم ربهم عز وجل ـ وهو أعلم بهم ـ: ما يقول
عبادي ؟ قال: يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك. قال: فيقول: هل رأوني ؟
قال: فيقولون: لا والله ما رأوْك ؛ قال: فيقول: وكيف لو رأوْني ؟ قال: يقولون: لو
رأوْك كانوا أشد لك عبادةً وأشد لك تمجيداً، وأكثر لك تسبيحاً. قال: يقول: فما
يسألونني ؟ قال: يقولون: يسألونك الجنة. قال: يقول: هل رأوْها ؟ قال: يقولون: لا
والله يا رب ما رأوْها. قال: فيقول: فكيف لو أنهم رأوْها ؟ قال: يقولون: لو أنهم
رأوْها كانوا أشد عليها حرصاً، وأشد لها طلباً، وأعظم فيها رغبة. قال: يقول: فمِمَّ
يتعوذون ؟ قال: يقولون: من النار، قال: يقول: وهل رأوْها ؟ قال: يقولون: لا والله
ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها ؟ قال: يقولون: لو رأوْها كانوا أشد منها
فراراً وأشد لها مخافة. قال: فيقول: أُشْهِدُكم أني قد غفرت لهم. قال: يقول ملك من
الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة. قال: يقول: هم الجلساء لا يشقى بهم
جليسهم" [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الدعوات].
ففي هذا الحديث فضل مجالس الذكر والذاكرين وفضل الاجتماع
على ذلك، وإن جليسهم يندرج معهم في جميع ما يتفضل عليهم ربهم إكراماً لهم ؛ وإن لم
يشاركهم في أصل الذكر، وبمجالسته لهم صار سعيداً لأن من جالس جانس ؛ إن صحَّت النية.
3ـ وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:
"إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قالوا: يا رسول
الله وما رياضُ الجنة ؟ قال: حِلَق الذكر" [أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات
وحسنه].
4ـ وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
"لَيبعثنَّ الله أقواماً يوم القيامة في وجوههم
النور، على منابر اللؤلؤ، يغبطهم الناس، ليسوا بأنبياء ولا شهداء، قال: فجثا
أعرابي على ركبتيه فقال: يا رسول الله حِلْهُم [حلهم: صفهم لنا وعرفنا نزلهم] لنا
نعرفْهم! قال: هم المتحابون في الله من قبائل شتى، وبلاد شتى يجتمعون على ذكر الله
يذكرونه" [رواه الطبراني بإسناد حسن كما في "الترغيب والترهيب" 2/406].
5ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له: جُمْدان فقال: "سيروا
هذا جُمْدان سبق المفَرِّدون. قيل: وما المُفَرِّدون يا رسول الله ؟ قال: المستَهتَرون
بذكر الله، يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون الله يوم القيامة خفافاً" [أخرجه
مسلم في كتاب الذكر والترمذي في كتاب الدعوات].
والمستَهْتَرون: هم المولعون بالذكر المداومون عليه، لا
يبالون ما قيل فيهم ولا ما فُعِلَ بهم.
6ـ وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
"ألا أُنبئكم بخير أعمالكم، وأزْكاها عند مليكِكم،
وأرفعها في درجاتكم، وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والوَرِق [الورق: الفضة]، وخيرٍ لكم
من أن تلْقَوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا: بلى. قال: ذكرُ
الله تعالى"، فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (ما شيءٌ أنجى من عذاب الله من
ذكر الله) [رواه الترمذي في كتاب الدعاء باب ما جاء في فضل الذكر. ورواه ابن ماجه
في "الأدب" باب فضل الذكر].
7ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: يقول الله تعالى :
"أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن
ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ خيرٍ منهم، وإن
تقرَّب إليَّ شبراً تقربتُ إليه ذراعاً، وإن تقرَّبَ إليَّ ذراعاً تقربتُ إليه
باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" [أخرجه مسلم في كتاب الذكر، والبخاري في
كتاب التوحيد والترمذي في كتاب الدعوات، والنسائي، وابن ماجه].
8ـ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال:
"يقول الله عز وجل يوم القيامة: سَيعْلَمُ أهلُ
الجمعِ مَنْ أهْلُ الكرَم، فقيل: ومَنْ أهلُ الكرم يا رسول الله ؟ قال: أهل مجالس
الذكر في المساجد" [رواه أحمد وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه والبيهقي وغيرهم.
"الترغيب والترهيب" ج2/ص404].
9ـ وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال:
"ما من قومٍ اجتمعوا يذكرون الله عز وجل لا يريدون
بذلك إلا وجهه ؛ إلا ناداهم منادٍ من السماء أن قوموا مغفوراً لكم فقد بُدلت
سيئاتكم حسنات" [رواه الإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيح كذا في "مجمع
الزوائد" ج10/ص76].
10ـ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:
"يقول الرب تبارك وتعالى: مَن شغلَهُ قراءةُ القرآن
وذكري عن مسألتي أعطيتُهُ أفضلَ ما أُعطي السائلين"[أخرجه الترمذي في كتاب "فضائل
القرآن" وقال: حديث حسن والدارمي والبيهقي].
هذا وكل ما ورد في فضائل الذكر والاجتماع عليه، والجهر
والإسرار به، فهو من أدلة مشروعيته.
أقوال
العلماء بالله في فضل الذكر
عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما):
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (لم يفرض الله
تعالى على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر، غير
الذكر ؛ فإنه لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على
عقله، وأمرهم بذكره في الأحوال كلها، فقال عز من قائل: {فاذكُروا اللهَ قياماً
وقعوداً وعلى جُنُوبِكُم} [النساء: 103]. وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا
الله ذكراً كثيراً} [الأحزاب: 41] أي بالليل والنهار، وفي البر والبحر، والسفر
والحضر، والغنى والفقر، وفي الصحة والسقم، والسر والعلانية، وعلى كل حال) ["نور
التحقيق" ص147].
ابن عطاء الله السكندري:
قال سيدي ابن عطاء الله السكندري: (الذكر هو التخلص من
الغفلة والنسيان بدوام حضور القلب مع الحق، وقيل: ترديد اسم الله بالقلب واللسان،
أو ترديد صفة من صفاته، أو حكم من أحكامه، أو فعل من أفعاله، أو غير ذلك مما
يُتقرَّبُ به إلى الله تعالى) ["مفتاح الفلاح" ص4 لابن عطاء الله
السكندري المتوفى 709هـ].
الإمام أبو القاسم القشيري:
قال الإمام أبو القاسم القشيري رضي الله عنه: (الذكر
منشور الولاية، ومنار الوصلة، وتحقيق الإرادة، وعلامة صحة البداية، ودلالة
النهاية، فليس وراء الذكر شيء ؛ وجميع الخصال المحمودة راجعة إلى الذكر ومنشؤها عن
الذكر).
وقال أيضاً: (الذكر ركن قوي في طريق الحق سبحانه وتعالى،
بل هو العمدة في هذا الطريق، ولا يصل أحد إلى الله تعالى إلا بدوام الذكر) ["الرسالة
القشيرية" ص110].
ابن قيم الجوزية:
قال ابن قيم الجوزية: (ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ
النحاس والفضة وغيرهما، وجلاؤه بالذكر، فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء، فإذا
تُرك صدىء، فإذا ذكر جلاه. وصدأ القلب بأمرين: بالغفلة، والذنب ؛ وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار
والذكر. فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكماً على قلبه، وصدؤه بحسب
غفلته. وإذا صدىء القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه ؛ فيرى الباطل
في صورة الحق، والحق في صورة الباطل، لأنه لمَّا تراكم عليه الصدأ أظلم فلم تظهر
فيه صور الحقائق كما هي عليه. فإذا تراكم عليه الصدأ، واسودَّ، وركبه الرانُ
فَسَدَ تصورُه وإدراكه فلا يقبل حقاً، ولا ينكر باطلاً، وهذا أعظم عقوباتِ القلب. وأصل
ذلك من الغفلة واتباع الهوى، فإنهما يطمسان نور القلب ويعميان بصره.
قال تعالى: {ولا تطعْ مَنْ أغفلْنا قلبَه عن ذكرِنا
واتَّبَعَ هواه وكان أمرُهُ فُرُطاً} [الكهف: 28]) ["الوابل الصيب من الكلم
الطيب" لابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751هـ ص52].
فخر الدين الرازي:
قال العلامة فخر الدين الرازي في تفسيره عند قوله تعالى:
{ولله الأسماء الحسنى....} [الأعراف: 180]: (إن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن
ذكر الله تعالى، والمخلِّص من عذاب جهنم هو ذكر الله تعالى، وأصحاب الذوق
والمشاهدة يجدون من أرواحهم أن الأمر كذلك، فإن القلب إذا غفل عن ذكر الله، وأقبل
على الدنيا وشهواتها، وقع في باب الحرص وزمهرير الحرمان، ولا يزال ينتقل من رغبة
إلى رغبة، ومن طلب إلى طلب، ومن ظلمة إلى ظلمة، فإذا انفتح على قلبه باب ذكر الله
ومعرفة الله تخلِّص من نيران الآفات، ومن حسرات الخسارات، واستشعر بمعرفة رب الأرض
والسموات) [تفسير الفخر الرازي ج4/ص472].
أحمد زروق:
يقول أحمد زروق رحمه الله في قواعده: (الخواص ثابتة في
الأقوال والأفعال والأعيان، وأعظمها خواص الأذكار، إذ ما عمل آدمي عملاً أنجى له
من عذاب الله من ذكر الله، وقد جعلها الله للأشياء كالأشربة والمعاجين في منافعها
؛ لكلٌّ ما يخصه. فلزم مراعاة العام في العموم، وفي الخاص مما يوافق حال الشخص)
["قواعد التصوف" لأحمد زروق ص37].
أحمد بن عجيبة:
قال أحمد بن عجيبة: (لا يكون الفتح على تحقيق العبد
بمقام الرضا إلا بعد تحققه بثلاثة أمور في بدايته:
1ـ الاستغراق في الاسم المفرد [الله] و(هذا خاص
بالمأذونين بذكر الاسم من مرشد كامل).
2ـ صحبته للذاكرين.
3ـ تمسكه بالعمل الصالح الذي لم يتصل به شيء من العلل،
وهو التمسك بالشريعة المحمدية) ["تجريد شرح الأجرومية" لابن عجيبة ص29].
والخلاصة:
إن جميع المربين والمرشدين الكاملين قد نصحوا السالكين
في سيرهم إلى الله وأبانوا لهم أن الطريق العملي الموصل إلى الله تعالى وإلى
رضوانه هو الإكثار من ذكر الله في جميع الحالات، وصحبةُ الذاكرين، لأن أنفاس
الذاكرين تقطع شهوات النفس الأمَّارة بالسوء.
أقسام
الذكر
أ ـ ذكر السر والجهر:
إن ذكر الله تعالى مشروع سراً وجهراً، وقد رغَّب رسول
الله صلى الله عليه وسلم في الذكر بنوعيه: السري والجهري، إلاَّ أن علماء الشريعة
الإسلامية قرروا أفضلية الجهر بالذكر إذا خلا من الرياء، أو إيذاء مُصَلٌّ أو
قارىء أو نائم، مستدلين ببعض الأحاديث النبوية الشريفة، منها:
1ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
"يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا
ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرتُه في ملأ خير
منهم" [أخرجه البخاري في صحيحه والترمذي والنسائي وابن ماجه]. والذكر في
الملأ لا يكون إلا عن جهر
2ـ عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: قال ابن الأدرع رضي
الله عنه: (انطلقت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة ؛ فمر برجل في المسجد يرفع
صوته، قلت: يا رسول الله عسى أن يكون هذا مرائياً ؟ قال: "لا، ولكنه أوَّاه")
[رواه البيهقي. كما في "الحاوي للفتاوي" للسيوطي ج1/ص391].
3ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن رفع الصوت
بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. قال
ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته) [أخرجه البخاري في صحيحه، والمعنى
كنت أعلم انصرافهم بسماع الذكر، كما قال صاحب "الفتح" الحافظ ابن حجر
العسقلاني في ج2/ص259].
4ـ عن السائب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: "جاءني جبريل قال: مُرْ أصحابك يرفعوا أصواتهم بالتكبير" [رواه
الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصححه السيوطي في كتابه "الحاوي للفتاوي"
ج1/ص389].
5ـ عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: إنَّا لَعندَ النبي
صلى الله عليه وسلم إذ قال: "ارفعوا أيديكم فقولوا: لا إله إلا الله، ففعلنا،
فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم إنَّك بعثتني بهذه الكلمة وأمرتني بها ووعدتني
عليها الجنة، إنك لا تخلف الميعاد، ثم قال: أبشروا فإن الله قد غفر لكم" [أخرجه
الحاكم. كما في المصدر السابق ج1/ص391].
وهناك أحاديث بلغت حدَّ الكثرة، جمع منها العلامة الكبير
جلال الدين السيوطي خمسة وعشرين حديثاً في رسالة سماها "نتيجة الفكر في الجهر
بالذكر" فقال: (الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، سألتَ أكرمك
الله عما اعتاده السادة الصوفية من عقد حِلَق الذكر، والجهر به في المساجد، ورفع
الصوت بالتهليل وهل ذلك مكروه، أو ؛ لا ؟ .
الجواب: إنه لا كراهة في شيء من ذلك، وقد وردت أحاديث
تقتضي استحباب الجهر بالذكر، وأحاديث تقتضي استحباب الإسرار به، والجمع بينهما أن
ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، وها أنا أُبين ذلك فصلاً فصلاً.
ثم ذكر الأحاديث الدالة على ذلك بكاملها ثم قال: إذا
تأملتَ ما أوردنا من الأحاديث، عرفت من مجموعها أنه لا كراهة البتة في الجهر
بالذكر، بل فيه ما يدل على استحبابه ؛ إما صريحاً أو التزاماً ـ كما أشرنا إليه ـ،
وأما معارضته بحديث "خيرُ الذكر الخفي" فهو نظير معارضة أحاديث الجهر
بالقرآن بحديث: "المسر بالقرآن كالمسر بالصدقة"، وقد جمع النووي بينهما:
بأن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء، أو تأذَّى به مصلون أو نيام، والجهر أفضل في غير
ذلك ؛ لأن العمل فيه أكثر، ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين، ولأنه يوقظُ القارىء،
ويجمع همه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه، ويطرد النوم، ويزيد في النشاط. وقال بعضهم:
يستحب الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها، لأن المُسِرَّ قد يملُّ فيأنس بالجهر،
والجاهر قد يكلُّ فيستريح بالإسرار. وكذلك نقول في الذكر على هذا التفصيل، وبه
يحصل الجمع بين الأحاديث. فإنْ قلتَ: قال الله تعالى: {واذكُرْ ربَّكَ في نفسك
تضرُّعاً وخيفةً ودون الجهرِ من القولِ} [الأعراف: 205]. قلت: الجواب على هذه
الآية من ثلاثة أوجه:
الأول: إنها مكية كآية الإسراء: {ولا تجهر بصلاتِكَ ولا
تخافِتْ بها} [الإسراء: 110]. وقد نزلت حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر
بالقرآن، فيسمعه المشركون فيسبون القرآن ومَنْ أنزله، فأُمِر بترك الجهر سداً
للذريعة، كما نُهي عن سب الأصنام لذلك في قوله تعالى : {ولا تسُبُّوا الذين يدعونَ
مِنْ دون الله فيسُبُّوا اللهَ عَدْواً بغيرِ علمٍ} [الأنعام: 108]. وقد زال هذا
المعنى، وأشار إلى ذلك ابن كثير في تفسيره.
الثاني: إن جماعة من المفسرين ـ منهم عبد الرحمن بن زيد
بن أسلم شيخ مالك، وابن جرير ـ حملوا الآية على الذاكر حال قراءة القرآن، وأنه
أمرٌ له بالذكر على هذه الصفة تعظيماً للقرآن أن ترفع عنه الأصوات، ويقويه اتصالها
بقوله تعالى: {وإذا قُرِئ القرآنُ فاستمعوا له وأنصتُوا} [الأعراف: 204]. قلت
وكأنه لما أمر بالإنصات خشي من ذلك الإخلاد إلى البطالة، فنبه على أنه وإن كان
مأموراً بالسكوت باللسان إلا أن تكليف الذكر بالقلب باقٍ حتى لا يغفل عن ذكر الله،
ولذا ختم الآية بقوله: {ولا تَكُنْ مِنَ الغافلين} [الأعراف: 205].
الثالث: ما ذكره الصوفية أن الأمر في الآية خاص بالنبي
صلى الله عليه وسلم الكامل المكمل، وأما غيره ـ ممن هو محل الوساوس والخواطر
الرديئة ـ فمأمور بالجهر، لأنه أشد تأثيراً في دفعها.
قلتُ: ويؤيده من الحديث ما أخرجه البزار عن معاذ بن جبل
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلَّى منكم بالليل
فليجهر بقراءته فإن الملائكة تصلي بصلاته، وتسمع لقراءته، وإنَّ مؤمني الجن الذين
يكونون في الهواء، وجيرانه معه في مسكنه يصلون بصلاته، ويستمعون قراءته، وإنه
ينطرد بجهره بقراءته عن داره وعن الدور التي حوله فُسَّاق الجن ومردة الشياطين".
فإن قلتَ: فقد قال تعالى: {ادعُوا ربَّكم تضرعاً وخُفيةً
إنَّه لا يحبُّ المعتدينَ} [الأعراف: 55]. وقد فسر الاعتداء بالجهر في الدعاء.
قلتُ: الجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن الراجح في تفسيره أنه تجاوزُ المأمور به، أو
اختراعُ دعوة لا أصل لها في الشرع، ويؤيده ما أخرجه ابن ماجه، والحاكم في مستدركه
وصححه عن أبي نعامة رضي الله عنه: (أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني
أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة. فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون بالدعاء") فهذا تفسير صحابي، وهو
أعلم بالمراد.
الثاني: على تقدير التسليم فالآية في الدعاء لا في
الذكر، والدعاء بخصوصه ؛ الأفضل فيه الإسرار، لأنه أقرب إلى الإجابة، ولذا قال
تعالى: {إذْ نادى ربَّهُ نداءً خفياً} [مريم: 3]. ومن ثَمَّ استحب الإسرار
بالاستعاذة في الصلاة اتفاقاً لأنها دعاء.
فإن قلتَ: فقد نُقل عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رأى
قوماً يهللون برفع الصوت في المسجد فقال: ما أراكم إلا مبتدعين حتى أخرجهم من
المسجد. قلت: هذا الأثر عن ابن مسعود يحتاج إلى بيان سنده، ومن أخرجه من الأئمة
الحفاظ في كتبهم، وعلى تقدير ثبوته فهو مُعارَض بالأحاديث الكثيرة الثابتة
المتقدمة، وهي مقدمة عليه عند التعارض، ثم رأيت ما يقتضي إنكار ذلك عن ابن مسعود،
قال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب الزهد: حدثنا حسين بن محمد حدثنا المسعودي عن
عامر بن شقيق عن أبي وائل قال: هؤلاء الذين يزعمون أن عبد الله كان يَنْهى عن
الذكر، ما جالستُ عبدَ الله مجلساً إلا ذَكَرَ الله فيه. وأخرج أحمد في الزهد عن
ثابت البناني قال: إن أهلَ ذكر الله ليجلسون إلى ذكر الله وإن عليهم من الآثام
أمثال الجبال، وإنهم ليقومون من ذكر الله تعالى ما عليهم منها شيء) ["الحاوي
للفتاوي" في الفقه وعلوم التفسير والحديث والأصول والنحو والإعراب وسائر
الفنون للعلامة الكبير جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911هـ. ج1/ص394].
وقال العلامة الكبير الشيخ محمود الألوسي في تفسيره عند
قوله تعالى: {وإنْ تجْهَرْ بالقول فإنَّه يعلم السِّرَ وأخفى} [طه: 7]. وقيل: نُهِيَ
عن الجهر بالذكر والدعاء، لقوله تعالى: {واذكرْ ربَّك في نفسِكَ تضرعاً وخفيةً
ودون الجهر من القولِ} [الأعراف: 205].
وأنت تعلم أن القول: بأن الجهر بالذكر والدعاء منهي، لا
ينبغي أن يكون على إطلاقه. والذي نصَّ عليه الإمام النووي رضي الله عنه في فتاويه:
أن الجهر بالذكر حيث لا محذور شرعاً ؛ مشروع مندوب إليه، بل هو أفضل من الإخفاء في
مذهب الإمام الشافعي، وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد، وإحدى الروايتين عن الإمام مالك
بنقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري. وهو قول القاضيخان في فتاويه في ترجمة مسائل
كيفية القراءة، وقوله في باب غسل الميت: (ويكره رفع الصوت بالذكر) فالظاهر أنه لمن
يمشي مع الجنازة كما هو مذهب الشافعية، لا مطلقاً، وقال الألوسي أيضاً: واختار بعض
المحققين أن المراد دون الجهر البالغ أو الزائد على قدر الحاجة فيكون الجهر
المعتدل، والجهر بقدر الحاجة داخلاً في المأمور به ؛ فقد صح ما يزيد على عشرين
حديثاً في أنه صلى الله عليه وسلم كثيراً ما كان يجهر بالذكر، وصح عن أبي الزبير
رضي الله عنه أنه سمع عبد الله بن الزبير يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا سلَّم من صلاته يقول بصوته الأعلى: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له
الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله ولا نعبد إلا
إياه، له النعمة وله الفضل" إلى أن قال: وقد ألَّف الشيخ إبراهيم الكوراني
عليه الرحمة في تحقيق هذه المسألة رسالتين جليلتين سمَّى أولاهما: "نثر الزهر
في الذكر بالجهر". وثانيتهما: "اتحاف المنيب الأوّاه بفضل الجهر بذكر
الله") ["روح المعاني" للعلامة الكبير الشيخ محمود الألوسي المتوفى
سنة 1270هـ ج16/ص147 ـ 148].
أفضلية ذكر الجهر:
قال العلامة الطحطاوي في حاشيته على مراقي الفلاح: (اختُلِفَ؛
هل الإسرار بالذكر أفضل ؟ فقيل: نعم، لأحاديث كثيرة تدل عليه منها:
"خير الذكر الخفي، وخير الرزق ما يكفي". ولأن
الإسرار أبلغ في الإخلاص، وأقرب إلى الإجابة. وقيل: الجهر أفضل لأحاديث كثيرة:
منها ما رواه ابن الزبير رضي الله عنهما: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم من صلاته قال بصوته الأعلى: "لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا
بالله..." الحديث [رواه مسلم في صحيحه في كتاب المساجد ومواقع الصلاة،
والترمذي في كتاب الصلاة].
وقد كان صلى الله عليه وسلم يأمر من يقرأ القرآن في
المسجد أن يُسمِع قراءته. وكان ابن عمر يأمر من يقرأ عليه وعلى أصحابه وهم
يستمعون، لأنه أكثر عملاً، وأبلغ في التدَبُّر، ونفعه متعدٍ لإيقاظ قلوب الغافلين.
وجُمع بين الأحاديث الواردة بأن ذلك يختلف بحسب الأشخاص
والأحوال ؛ فمن خاف الرياء، أو تأذَّى به أحد كان الإسرار أفضل، ومتى فُقد ما ذكر
كان الجهر أفضل. قال في "الفتاوي": لا يُمنع من الجهر بالذكر في
المساجد، احترازاً عن الدخول تحت قوله تعالى: {ومَنْ أظلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مساجدَ
اللهِ أنْ يُذكَرَ فيها اسمُه} [البقرة: 114]. كذا في البزازية.
ونص الشعراني في ذكر الذاكر للمذكور والشاكر للمشكور ما
لفظه: وأجمع العلماء سلفاً وخلفاً على استحباب ذكر الله تعالى جماعة في المساجد
وغيرها من غير نكير، إلا أن يشوش جهرهم بالذكر على نائم أو مصلٌّ أو قارىء قرآن،
كما هو مقرر في كتب الفقه ["حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح" ص208].
وقال ابن عابدين في حاشيته الشهيرة:
(وفي الفتاوي الخيرية من الكراهية والاستحسان جاء في
الحديث ما اقتضى طلب الجهر به نحو: "وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم".
رواه الشيخان.
وهناك أحاديث اقتضت طلب الإسرار. والجمع بينهما: أن ذلك
يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، كما جُمع بذلك بين أحاديث الجهر والإخفاء
بالقراءة، ولا يعارض ذلك حديث "خير الذكر الخفي" لأنه حيث خيف الرياء،
أو تأذي المصلين أو النيام، فإن خلا مما ذكر فقال بعض أهل العلم: إن الجهر أفضل،
لأنه أكثر عملاً، ولتعدي فائدته إلى السامعين ويوقظ قلب الذاكر، فيجمع همه إلى
الفكر، ويصرف سمعه إليه، ويطرد النوم، ويزيد النشاط. ا.هـ ملخصاً وتمام الكلام
هناك فراجعه،. وفي حاشية الحموي عن الإمام الشعراني : (أجمع العلماء سلفاً وخلفاً
على استحباب ذكر الجماعة في المساجد وغيرها إلا أن يشوش جهرهم على نائم أو مصلٌّ
أو قارىء) ["حاشية ابن عابدين" ج5/ص263].
ب ـ ذكر اللسان وذكر القلب:
قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني: سمعت أخي أفضل الدين
رحمه الله يقول: (الذكر باللسان مشروع للأكابر والأصاغر، لأن حجاب العظمة لا يرتفع
لأحد ولا للأنبياء، فلا بد من حجاب لكنه يدق فقط) ["الميزان" للشيخ عبد
الوهاب الشعراني ج1/ص160].
وقال الإمام النووي رحمه الله: (أجمع العلماء على جواز
الذكر بالقلب واللسان للمحْدِث والجنب والحائض والنفساء وذلك في التسبيح والتحميد
والتكبير والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعاء ونحو ذلك) ["الفتوحات
الربانية على الأذكار النواوية" ج1/ص106 ـ 109].
وقال الإمام النووي رحمه الله: (الذكر يكون بالقلب ويكون
باللسان، والأفضل منه ما كان بالقلب واللسان جميعاً، فإن اقتصر على أحدهما فالقلب
أفضل. ثم لا ينبغي أن يُترك الذكر باللسان مع القلب خوفاً من أن يُظن به الرياء،
بل يذكر بهما جميعاً، ويقصد به وجه الله تعالى).
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: (إن ترك العمل لأجل الناس
رياء، ولو فتح الإنسان عليه باب ملاحظة الناس والاحتراز من تطرق ظنونهم الباطلة
لانْسَدَّ عليه أكثر أبواب الخير، وضيَّع على نفسه شيئاً عظيماً من مهمات الدين،
وليس هذا طريق العارفين) ["الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية" ج1/ص127].
وقلب الغافل عليه غشاوة، فلا يجد صاحبها لطعم الذكر
حلاوة، ولا لغيره من العبادات ولذلك قيل: (لا خير في ذكر مع قلب غافلٍ ساهٍ) ولا
نعني بذلك أن يترك الذكر مع الغفلة، إلا أن صاحب الهمة العالية يجاهد نفسه، ويراقب
قلبه مرة بعد مرة، حتى ينتقل إلى ذكر مع الحضور، وذلك كالرامي ؛ ففي المرة الأولى
لا يصيب الهدف، ثم يحاول في الثانية والثالثة إلى أن يتقن ذلك، فيصيب الهدف. وكذلك
الإنسان مع قلبه ؛ يحاول المرة تلو المرة بين ذكر ومذاكرة حتى يعتاد القلب الحضور
مع الله تعالى.
قال حجة الإسلام الغزالي رحمه الله: (واعلم أنه قد انكشف
لأرباب البصائر أن الذكر أفضل الأعمال، ولكن له أيضاً قشور ثلاثة بعضها أقرب للُّب
من بعض وله لب وراء القشور الثلاثة، وإنما فضل القشور لكونها طريقاً إليه.
فالقشر الأعلى منه: ذكر اللسان فقط.
والثاني: ذكر القلب إذا كان القلب يحتاج إلى موافقته حتى
يحضر مع الذكر، ولو تُرك وطبعه لاسترسل في أودية الأفكار.
والثالث: أن يستمكن الذكر من القلب، ويستولي عليه بحيث
يحتاج إلى تكلف في صرفه عنه إلى غيره، كما احتيج في الثاني إلى تكلف في قراره معه
ودوامه عليه.
والرابع: وهو اللباب، أن يستمكن المذكور من القلب،
وينمحي الذكر ويخفى، وهو اللباب المطلوب، وذلك بأن لا يلتفت إلى الذكر ولا إلى
القلب بل يستغرق المذكورُ جملتَه، ومهما ظهر له في أثناء ذلك التفات إلى الذكر
فذلك حجاب شاغل. وهذه الحالة التي يعبر عنها العارفون بالفناء... ثم قال رحمه الله:
فهذه ثمرة لباب الذكر وإنما مبدؤها ذكر اللسان، ثم ذكر القلب تكلفاً، ثم ذكر القلب
طبعاً، ثم استيلاء المذكور وانمحاء الذكر) [كتاب "الأربعين في أصول الدين"
للإمام الغزالي ص52 ـ 55].
ج ـ الذكر المنفرد والذكر مع الجماعة:
العبادات مع الجماعة ـ وفيها ذكر الله تعالى ـ تزيد في
الفضل على العبادة في حالة الانفراد ؛ ففي الجماعة تلتقي القلوب، ويكون التعاون
والتجاوب، ويستقي الضعيف من القوي، والمُظْلِم من المُنَوَّر، والكثيف من اللطيف،
والجاهل من العالم وهكذا...
عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قالوا: وما رياض الجنة ؟ قال: حِلَقُ
الذكر" [أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "إن لله تبارك وتعالى ملائكةً سيارةً وفضلاء يلتمسون مجالس الذكر
في الأرض فإذا أتَوا على مجلس ذكرٍ حفَّ بعضهم بعضاً بأجنحتهم إلى السماء، فيقول
الله من أين جئتُم ؟ فيقولون: جئنا من عند عبادك يسبحونك، ويحمدونك ويهللونك،
ويسألونك، ويستجيرونك. فيقول: ما يسألون ؟ ـ وهو أعلم بهم ـ فيقولون: يسألونك
الجنة. فيقول: وهل رأوْها ؟ فيقولون: لا يا رب. فيقول: فكيف لو رأوْها ؟ ثم يقول: ومِمَّ
يستجيرون ؟ ـ وهو أعلم بهم ـ فيقولون: من النار. فيقول: وهل رأوْها ؟ فيقولون: لا.
فيقول: كيف لو رأوْها ؟ ثم يقول: اشهدوا أني قد غفرتُ لهم، وأعطيتُهم ما سألوني،
وأجرتُهم مما استجاروني. فيقولون: ربَّنا إن فيهم عبداً خطَّاءً جلس إليهم وليس
منهم ؛ فيقول: وهو أيضاً قد غفرتُ له، هم القوم لا يشقى بهم جليسُهم" [أخرجه
مسلم في صحيحه في كتاب الذكر ، والترمذي في كتاب الدعوات، والحاكم].
وعن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من قوم يذكرون الله إلا حفَّتهم الملائكة،
وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده" [أخرجه مسلم في
كتاب الذكر، والترمذي في كتاب الدعوات].
عن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج
على حَلْقةٍ من أصحابه فقال: "ما يُجْلِسُكُمْ ؟ قالوا: جلسنا نذكر الله
ونحمده فقال: إنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يُباهي بكم الملائكة" [أخرجه
مسلم في كتاب الذكر، والترمذي في كتاب الدعوات].
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إن لله تعالى سيارة من الملائكة يطلبون حِلَقَ الذكر، فإذا أتَوا
عليهم حفُّوا بهم" [رواه البزار وقال الهيثمي: إسناده حسن]. وعن أنس أيضاً
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مررتم برياض الجنة
فارتعوا. قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله ؟ قال: حِلَقُ الذكر" [رواه
الترمذي في كتاب الدعوات].
قال العلامة ابن علان شارح الأذكار في معنى هذا الحديث:
(والمعنى: إذا مررتم بجماعة يذكرون الله فاذكروا موافقة لهم، أو اسمعوا أذكارهم،
فإنهم في رياض من الجنة حالاً أو مآلاً. قال تعالى: {ولمَنْ خافَ مقامَ ربِّهِ
جنَّتانِ} [الرحمن: 46]) ["الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية" ج 1/94].
وقال العلامة ابن عابدين في حاشيته في معرِضِ ذكر الله
تعالى مع الجماعة: (وقد شبه الإمام الغزالي ذكر الإنسان وحده وذكر الجماعة بأذان
المنفرد وأذان الجماعة، قال: فكما أن أصوات المؤذنين جماعة تقطع جِرم الهواء أكثر
من صوت المؤذن الواحد، كذلك ذكر الجماعة على قلب واحد أكثر تأثيراً في رفع الحجب
الكثيفة من ذكر شخص واحد) ["حاشية ابن عابدين" ج5/ص263].
وقال الطحطاوي في حاشيته:
(ونص الشعراني: أجمع العلماء سلفاً وخلفاً على استحباب
ذكر الله تعالى جماعة في المساجد وغيرها من غير نكير، إلا أن يشوشَ جهرُهم بالذكر
على نائم أو مصلٌّ أو قارىء قرآن، كما هو مقرر في كتب الفقه) ["حاشية
الطحطاوي على مراقي الفلاح" ص208].
وأما الذكر منفرداً: فله أثر فعال في صفاء القلب
وإيقاظه، وتعويد المؤمن على الأنس بربه والتنعم بمناجاته، والشعور بقربه. فلا بد
للمؤمن من جلسة يذكر الله خالياً منفرداً بربه بعد أن يحاسب نفسه ويطلع على عيوبه
وأخطائه، فإذا ما رأى سيئة ؛ استغفر وتاب وإذا ما رأى عيباً ؛ جاهد نفسه للتخلص
منه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "سبعة يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله... وذكر منهم: ورجل ذكر
الله خالياً ففاضت عيناه" [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب أبواب صلاة
الجماعة، وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق