ذو النون المصري
ومنهم العلم المضي ، والحكم المرضي الناطق بالحقائق ، الفائق للطرائق ، له العبارات الوثيقة والإشارات الدقيقة . نظر فعبر وذكر فازدجر أبو الفيض [ ص: 332 ] ذو النون بن إبراهيم المصري رحمه الله تعالى .
حدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا علي بن الهيثم المصري ، قال : سمعت ذا النون المصري العابد أبا الفيض ، يقول : " اللهم اجعلنا من الذين جازوا ديار الظالمين ، واستوحشوا من مؤانسة الجاهلين ، وشابوا ثمرة العمل بنور الإخلاص ، واستقوا من عين الحكمة ، وركبوا سفينة الفطنة ، وأقلعوا بريح اليقين ، ولججوا في بحر النجاة ، ورسوا بشط الإخلاص . اللهم اجعلنا من الذين سرحت أرواحهم في العلا ، وحطت همم قلوبهم في عاريات التقى حتى أناخوا في رياض النعيم ، وجنوا من رياض ثمار التسنيم ، وخاضوا لجة السرور ، وشربوا بكأس العيش ، واستظلوا تحت العرش في الكرامة . اللهم اجعلنا من الذين فتحوا باب الصبر وردموا خنادق الجزع وجازوا شديد العقاب وعبروا جسر الهوى ، فإنه تعالى يقول : ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) اللهم اجعلنا من الذين أشارت إليهم أعلام الهداية ، ووضحت لهم طريق النجاة ، وسلكوا سبيل إخلاص اليقين " .
حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم ، حدثني أحمد بن محمد بن حمدان النيسابوري أبو حامد ، ثنا عبد القدوس بن عبد الرحمن الشامي ، قال : سمعت أبا الفيض ذا النون بن إبراهيم المصري يقول : " إلهي وسيلتي إليك نعمك علي ، وشفيعي إليك إحسانك إلي ، إلهي أدعوك في الملأ كما تدعى الأرباب ، وأدعوك في الخلا كما تدعى الأحباب ، أقول في الملأ : يا إلهي ، وأقول في الخلا : يا حبيبي ، أرغب إليك وأشهد لك بالربوبية مقرا بأنك ربي وإليك مردي ، ابتدأتني برحمتك من قبل أن أكون شيئا مذكورا ، وخلقتني من تراب ثم أسكنتني الأصلاب ، ونقلتني إلى الأرحام ، ولم تخرجني برأفتك في دولة أيمة ، ثم أنشأت خلقي من مني يمنى ، ثم أسكنتني في ظلمات ثلاث ؛ بين دم ولحم ملتاث ، وكونتني في غير صورة الإناث ، ثم نشرتني إلى الدنيا تاما سويا ، وحفظتني في المهد طفلا صغيرا صبيا ، ورزقتني من الغذاء لبنا مريا ، وكفلتني حجور الأمهات ، وأسكنت قلوبهم رقة لي وشفقة علي ، وربيتني بأحسن تربية ، ودبرتني بأحسن تدبير ، وكلأتني [ ص: 333 ] من طوارق الجن وسلمتني من شياطين الإنس ، وصنتني من زيادة في بدني تشينني ، ومن نقص فيه يعيبني ، فتباركت ربي وتعاليت يا رحيم ، فلما استهللت بالكلام أتممت علي سوابغ الإنعام ، وأنبتني زائدا في كل عام ، فتعاليت يا ذا الجلال والإكرام .
حتى إذا ملكتني شأني ، وشددت أركاني ، أكملت لي عقلي ، ورفعت حجاب الغفلة عن قلبي ، وألهمتني النظر في عجيب صنائعك وبدائع عجائبك ، وأوضحت لي حجتك ودللتني على نفسك ، وعرفتني ما جاءت به رسلك ، ورزقتني من أنواع المعاش وصنوف الرياش بمنك العظيم وإحسانك القديم ، وجعلتني سويا ، ثم لم ترض لي بنعمة واحدة دون أن أتممت علي جميع النعم ، وصرفت عني كل بلوى ، وأعلمتني الفجور لأجتنبه ، والتقوى لأقترفها ، وأرشدتني إلى ما يقربني إليك زلفى ، فإن دعوتك أجبتني ، وإن سألتك أعطيتني ، وإن حمدتك شكرتني ،وإن شكرتك زودتني .
إلهي فأي نعم أحصي عددا ؟! وأي عطائك أقوم بشكره ؟! أما أسبغت علي من النعماء أو صرفت عني من الضراء . إلهي أشهد لك بما شهد لك باطني وظاهري وأركاني ، إلهي إني لا أطيق إحصاء نعمك فكيف أطيق شكرك عليها ؟! وقد قلت وقولك الحق : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها )أم كيف يستغرق شكري نعمك ، وشكرك من أعظم النعم عندي ، وأنت المنعم به علي كما قلت سيدي : ( وما بكم من نعمة فمن الله ) وقد صدقت قولك .
إلهي وسيدي ، بلغت رسلك بما أنزلت إليهم من وحيك غير أني أقول بجهدي ومنتهى علمي ومجهود وسعي ومبلغ طاقتي : الحمد لله على جميع إحسانه حمدا يعدل حمد الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين " .
حدثنا عثمان بن محمد العثماني ، ثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد ، ثنا محمد بن عبد الملك بن هاشم ، قال : سمعت ذا النون المصري ، يقول في دعائه : " اللهم إليك تقصد رغبتي ، وإياك أسأل حاجتي ، ومنك أرجو نجاح طلبتي ، وبيدك مفاتيح مسألتي لا أسأل الخير إلا منك ، ولا أرجوه من غيرك ، ولا أيأس من روحك بعد معرفتي بفضلك ، يا من جمع كل شيء حكمته ، ويا من نفذ في كل شيء [ ص: 334 ] حكمه ، يا من الكريم اسمه ، لا أحد لي غيرك فأسأله ، ولا أثق بسواك فآمله ، ولا أجعل لغيرك مشيئة من دونك أعتصم بها وأتوكل عليه ، فمن أسأل إن جهلتك ، وبمن أثق بعد إذ عرفتك ، اللهم إن ثقتي بك ، وإن ألهتني الغفلات عنك وأبعدتني العثرات منك بالاغترار ، يا مقيل العثرات إن لم تتلافني بعصمة من العثرات فإني لا أحول بعزيمة من نفسي ، ولا أروم على خليفة بمكان من أمري .
أنا نعمة منك وأنا قدر من قدرك ، أجري في نعمك وأسرح في قدرك ، أزداد على سابقة علمك ولا أنتقص من عزيمة أمرك ، فأسألك يا منتهى السؤالات ، وأرغب إليك يا موضع الحاجات سواك ، من قد كذب كل رجاء إلا منك ، ورغبة من رغب عن كل ثقة إلا عنك ، أن تهب لي إيمانا أقدم به عليك ، وأوصل به عظم الوسيلة إليك ، وأن تهب لي يقينا لا توهنه بشبهة إفك ، ولا تهنه خطرة شك ، ترحب به صدري ، وتيسر به أمري ، ويأوي إلى محبتك قلبي ، حتى لا ألهو عن شكرك ، ولا أنعم إلا بذكرك ، يا من لا تمل حلاوة ذكره ألسن الخائفين ، ولا تكل من الرغبات إليه مدامع الخاشعين ، أنت منتهى سرائر قلبي في خفايا الكتم ، وأنت موضع رجائي بين إسراف الظلم .
من ذا الذي ذاق حلاوة مناجاتك فلها بمرضاة بشر عن طاعتك ومرضاتك ؟! رب أفنيت عمري في شدة السهو عنك ، وأبليت شبابي في سكرة التباعد منك ، ثم لم أستبطئ لك كلاءة ومنعة في أيام اغتراري بك وركوني إلى سبيل سخطك ، وعن جهل يا رب قربتني الغرة إلى غضبك ، وأنا عبدك ابن عبدك ، قائم بين يديك متوسل بكرمك إليك ، فلا يزيلني عن مقام أقمتني فيه غيرك ، ولا ينقلني من موقف السلامة من نعمك إلا أنت ، أتنصل إليك بما كنت أواجهك به من قلة استحيائي من نظرك ، وأطلب العفو منك يا رب إذ العفو نعمة لكرمك ، يا من يعصى ويتاب إليه فيرضى كأنه لم يعص ، بكرم لا يوصف وتحنن لا ينعت ، يا حنان بشفقته يا متجاوزا بعظمته ، لم يكن لي حول فأنتقل عن معصيتك إلا في وقت أيقظتني فيه لمحبتك ، وكما أردت أن أكون كنت ، وكما رضيت أن أقول قلت ، خضعت لك وخشعت لك [ ص: 335 ] إلهي لتعزني بإدخالي في طاعتك ، ولتنظر إلي نظر من ناديته فأجابك واستعملته بمعونتك فأطاعك ، يا قريب لا تبعد عن المعتزين ، ويا ودود لا تعجل على المذنبين اغفر لي وارحمني يا أرحم الراحمين " . حدثنا محمد بن محمد بن عبد الله بن زيد ، ثنا أبو العباس أحمد بن عيسى الوشاء ، ثنا سعيد بن عبد الحكم ، قال : سمعت ذا النون يقول : خرجت في طلب المناجاة فإذا أنا بصوت فعدلت إليه فإذا أنا برجل قد غاص في بحر الوله ، وخرج علي ساحل الكمه ، وهو يقول في دعائه : أنت تعلم أني لا أعلم أن الاستغفار مع الإصرار لؤم ، وأن تركي الاستغفار مع معرفتي بسعة رحمتك لعجز ، إلهي أنت الذي خصصت خصائصك بخالص الإخلاص ، وأنت الذي سلمت قلوب العارفين من اعتراض الوسواس ، وأنت آنست الآنسين من أوليائك ، وأعطيتهم كفاية رعاية المتوكلين عليك ، تكلؤهم في مضاجعهم ، وتطلع على سرائرهم ، وسري عندك مكشوف ، وأنا إليك ملهوف . قال : ثم سكنت صرخته فلم أسمع له صوتا .
حدثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، ثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان ، قال : سمعت ذا النون أبا الفيض ، يقول : " اللهم اجعلنا من الذين تفكروا فاعتبروا ، ونظروا فأبصروا ، وسمعوا فتعلقت قلوبهم بالمنازعة إلى طلب الآخرة حتى أناخت وانكسرت عن النظر إلى الدنيا وما فيها ، ففتقوا بنور الحكم ما رتقه ظلم الغفلات وفتحوا أبواب مغاليق العمى بأنوار مفاتيح الضياء ، وعمروا مجالس الذاكرين بحسن مواظبة استيدام الثناء ، اللهم اجعلنا من الذين تراسلت عليهم ستور عصمة الأولياء ، وحصنت قلوبهم بطهارة الصفاء ، وزينتها بالفهم والحياء ، وطيرت همومهم في ملكوت سماواتك حجابا حتى تنتهي إليك فرددتها بظرائف الفوائد . اللهم اجعلنا من الذين سهل عليهم طريق الطاعة ، وتمكنوا في أزمة التقوى ، ومنحوا بالتوفيق منازل الأبرار فزينوا وقربوا وكرموا بخدمتك " .
وسمعته يقول : " لك الحمد يا ذا المن والطول والآلاء والسعة ، إليك توجهنا وبفنائك أنخنا ، ولمعروفك تعرضنا ، وبقربك نزلنا ، يا حبيب التائبين ، ويا سرور [ ص: 336 ] العابدين ، ويا أنيس المتفردين ، ويا حرز اللاجئين ويا ظهر المنقطعين ، ويا من حبب إليه قلوب العارفين وبه آنست أفئدة الصديقين ، وعليه عطفت رهبة الخائفين ، يا من أذاق قلوب العابدين لذيذ الحمد وحلاوة الانقطاع إليه ، يا من يقبل من تاب ويعفو عمن أناب ، ويدعو المولين كرما ، ويرفع المقبلين إليه تفضلا ، يا من يتأنى على الخاطئين ويحلم عن الجاهلين ، ويا من حل عقدة الرغبة من قلوب أوليائه ، ومحا شهوة الدنيا عن فكر قلوب خاصته وأهل محبته ، ومنحهم منازل القرب والولاية ، ويا من لا يضيع مطيعا ولا ينسى صبيا ، يا من منح بالنوال ، ويا من جاد بالاتصال ، يا ذا الذي استدرك بالتوبة ذنوبنا ، وكشف بالرحمة غمومنا ، وصفح عن جرمنا بعد جهلنا ، وأحسن إلينا بعد إساءتنا ، يا آنس وحشتنا ويا طبيب سقمنا ، يا غياث من أسقط بيده ، وتمكن حبل المعاصي ، وأسفر خدر الحيا عن وجهه ، هب خدودنا للتراب بين يديك ، يا خير من قدر وأرأف من رحم وعفا " .
حدثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، ثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان ، قال : سمعت ذا النون ، يقول : " أسألك باسمك الذي ابتدعت به عجائب الخلق في غوامض العلم ، يجود جلال جمال وجهك في عظيم عجيب تركيب أصناف جواهر لغاتها ، فخرت الملائكة سجدا لهيبتك من مخافتك ، أن تجعلنا من الذين سرحت أرواحهم في العلى وحطت همم قلوبهم في مغلبات الهوى ، حتى أناخوا في رياض النعيم ، وجنوا من ثمار التسنيم ، وشربوا بكأس العشق وخاضوا لجج السرور واستظلوا تحت فناء الكرامة ، اللهم اجعلنا من الذين شربوا بكأس الصفا ، فأورثهم الصبر على طول البلاء ، حتى توليت قلوبهم في الملكوت وجالت بين سرائر حجب الجبروت ، ومالت أرواحهم في ظل برد نسيم المشتاقين الذين أناخوا في رياض الراحة ، ومعدن العز وعرصات المخلدين " .
حدثنا أبي ، ثنا سعيد بن أحمد ، ثنا عثمان ، قال : سمعت ذا النون ، يقول : " اعتل رجل من إخواني فكتب إلي أن ادع الله لي فكتبت إليه : سألتني أن أدعو [ ص: 337 ] الله لك أن يزيل عنك النعم ، واعلم يا أخي أن العلة مجزلة يأنس بها أهل الصفا والهمم ، والضياء في الحياة ذكرك للشفاء ، ومن لم يعد البلاء نعمة فليس من الحكماء ، ومن لم يأمن التشفيق على نفسه فقد أمن أهل التهمة على أمره ، فليكن معك يا أخي حياء يمنعك عن الشكوى ، والسلام " . حدثنا أبي ، ثنا أحمد ، ثنا سعيد بن عثمان ، حدثني إبراهيم بن يحيى الزبيدي ، قال : لما حمل ذو النون بن إبراهيم إلى جعفر المتوكل أنزله في بعض الدور وأوصى به زرافة . وقال : أنا إذا رجعت غدا من ركوبي فأخرج إلي هذا الرجل ، فقال له زرافة : إن أمير المؤمنين قد أوصاني بك ، فلما رجع من الغد من الركوب قال له : انظر بأن تستقبل أمير المؤمنين بالسلام ، فلما أخرجه إليه قال له : سلم على أمير المؤمنين ، فقال ذو النون : " ليس هكذا جاءنا الخبر ، إنما جاءنا في الخبر أن الراكب يسلم على الراجل " . قال : فتبسم أمير المؤمنين وبدأه بالسلام ، فنزل إليه أمير المؤمنين ، فقال له : أنت زاهد أهل مصر ؟ قال : " كذا يقولون " .
فقال له زرافة : فإن أمير المؤمنين يحب أن يسمع من كلام الزهاد . قال : فأطرق مليا ثم قال : " يا أمير المؤمنين إن الجهل علق بنكتة أهل الفهم ، يا أمير المؤمنين إن لله عبادا عبدوه بخالص من السر فشرفهم بخالص من شكره ، فهم الذين تمر صحفهم مع الملائكة فرغا حتى إذا صارت إليه ملأها من سر ما أسروا إليه ، أبدانهم دنيوية وقلوبهم سماوية ، قد احتوت قلوبهم من المعرفة كأنهم يعبدونه مع الملائكة بين تلك الفرج وأطباق السماوات ، لم يخبتوا في ربيع الباطل ولم يرتعوا في مصيف الآثام ، ونزهوا الله أن يراهم يثبون على حبائل مكره ، هيبة منهم له وإجلالا أن يراهم يبيعون أخلاقهم بشيء لا يدوم وبلذة من العيش مزهودة ، فأولئك الذين أجلسهم على كراسي أطباق أهل المعرفة بالأدواء والنظر في منابت الدواء ، فجعل تلامذتهم أهل الورع والبصر .
فقال لهم : إن أتاكم عليل من فقدي فداووه أو مريض من تذكري فأدنوه ، أو ناس لنعمتي فذكروه ، أو مبارز لي بالمعاصي فنابذوه ، أو محب لي فواصلوه ، يا أوليائي فلكم عاتبت ولكم خاطبت ومنكم الوفاء طلبت ، لا أحب استخدام [ ص: 338 ] الجبارين ، ولا تولي المتكبرين ، ولا مصافاة المترفين ، يا أوليائي وأحبابي جزائي لكم أفضل الجزاء ، وإعطائي لكم أفضل العطاء ، وبذلي لكم أفضل البذل ، وفضلي عليكم أوفر الفضل ، ومعاملتي لكم أوفى المعاملة ، ومطالبتي لكم أشد مطالبة ، وأنا مقدس القلوب وأنا علام الغيوب ، وأنا عالم بمجال الفكر ، ووسواس الصدور ، من أرادكم قصمته ومن عاداكم أهلكته " .
ثم قال ذو النون : " بحبك وردت قلوبهم على بحر محبته فاغترفت منه ريا من الشراب فشربت منه بمخاطر القلوب ، فسهل عليها كل عارض عرض لها عند لقاء المحبوب ، فواصلت الأعضاء المبادرة ، وألفت الجوارح تلك الراحة ، فهم رهائن أشغال الأعمال ، قد اقتلعتهم الراحة بما كلفوا أخذه عن الانبساط بما لا يضرهم تركه . قد سكنت لهم النفوس ورضوا بالفقر والبؤس واطمأنت جوارحهم على الدءوب على طاعة الله عز وجل بالحركات ، وظعنت أنفسهم عن المطاعم والشهوات ، فتوالهوا بالفكرة ، واعتقدوا بالصبر ، وأخذوا بالرضا ، ولهوا عن الدنيا ، وأقروا بالعبودية للملك الديان ، ورضوا به دون كل رقيب وحميم ، فخشعوا لهيبته ، وأقروا له بالتقصير ، وأذعنوا له بالطاعة ، ولم يبالوا بالقلة إذا خلوا بأقل بكاء ، وإذا عوملوا فإخوان حياء ، وإذا كلموا فحكماء ، وإذا سئلوا فعلماء ، وإذا جهل عليهم فحلماء ، فلو قد رأيتهم لقلت عذارى في الخدور ، وقد تحركت لهم المحبة في الصدور بحسن تلك الصور التي قد علاها النور ، إذا كشفت عن القلوب رأيت قلوبا لينة منكسرة ، وبالذكر نائرة وبمحادثة المحبوب عامرة ، لا يشغلون قلوبهم بغيره ، ولا يميلون إلى ما دونه ، قد ملأت محبة الله صدورهم ، فليس يجدون لكلام المخلوقين شهوة ولا بغير الأنيس ومحادثة الله لذة ، إخوان صدق وأصحاب حياء ووفاء وتقى وورع وإيمان ومعرفة ودين ، قطعوا الأودية بغير مفاوز ، واستقلوا الوفاء بالصبر على لزوم الحق ، واستعانوا بالحق على الباطل فأوضح لهم الحجة ، ودلهم على المحجة فرفضوا طريق المهالك وسلكوا خير المسالك ودلهم ، أولئك هم الأوتاد الذين بهم توهب المواهب ، وبهم تفتح الأبواب ، وبهم ينشأ السحاب ، وبهم يدفع العذاب ، وبهم يستقي العباد والبلاد فرحمة الله علينا وعليهم " .
[ ص: 339 ] سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله الرازي - المذكور بنيسابور - يقول : سمعت يوسف بن الحسين ، يقول : سمعت ذا النون المصري ، يقول : " تنال المعرفة بثلاث : بالنظر في الأمور كيف دبرها ، وفي المقادير كيف قدرها ، وفي الخلائق كيف خلقها ؟ " .
حدثنا محمد بن إبراهيم ، ثنا عبد الحكم بن أحمد بن سلام الصدفي قال : سمعت ذا النون المصري يقول : قرأت في باب مصر بالسريانية فتدبرته فإذا فيه : يقدر المقدرون ، والقضاء يضحك " .
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر - من أصله - ، ثنا أبو بكر الدينوري المفسر - سنة ثمان وثمانين ومائتين - ثنا محمد بن أحمد الشمشاطي قال : سمعت ذا النون المصري يقول : " إن لله عبادا ملأ قلوبهم من صفاء محض محبته وهيج أرواحهم بالشوق إلى رؤيته ، فسبحان من شوق إليه أنفسهم ، وأدنى منه هممهم وصفت له صدورهم ، سبحان موفقهم ومؤنس وحشتهم وطبيب أسقامهم ، إلهي لك تواضعت أبدانهم منك إلى الزيادة ، انبسطت أيديهم ما طيبت به عيشهم ، وأدمت به نعيمهم ، فأذقتهم من حلاوة الفهم عنك ، ففتحت لهم أبواب سماواتك ، وأتحت لهم الجواز في ملكوتك ، بك أنست محبة المحبين ، وعليك معول شوق المشتاقين وإليك حنت قلوب العارفين ، وبك آنست قلوب الصادقين ، وعليك عكفت رهبة الخائفين ، وبك استجارت أفئدة المقصرين ، قد بسطت الراحة من فتورهم ، وقل طمع الغفلة فيهم ، لا يسكنون إلى محادثة الفكرة فيما لا يعنيهم ولا يفترون عن التعب والسهر ، يناجونه بألسنتهم ويتضرعون إليه بمسكنتهم ، يسألونه العفو عن زلاتهم والصفح عما وقع الخطأ به في أعمالهم ، فهم الذين ذابت قلوبهم بفكر الأحزان وخدموه خدمة الأبرار الذين تدفقت قلوبهم ببره ، وعاملوه بخالص من سره حتى خفيت أعمالهم عن الحفظة فوقع بهم ما أملوا من عفوه ووصلوا بها إلى ما أرادوا من محبته ، فهم والله الزهاد والسادة من العباد الذين حملوا أثقال الزمان ، فلم يألموا بحملها ، وقفوا في مواطن الامتحان فلم تزل أقدامهم عن مواضعها حتى مال بهم [ ص: 340 ] الدهر ، وهانت عليهم المصائب ، وذهبوا بالصدق والإخلاص عن الدنيا .
إلهي فيك نالوا ما أملوا ، كنت لهم سيدي مؤيدا ، ولعقولهم مؤديا ، حتى أوصلتهم أنت إلى مقام الصادقين في عملك ، وإلى منازل المخلصين في معرفتك ، فهم إلى ما عند سيدهم متطلعون ، وإلى ما عنده من وعيده ناظرون ، ذهبت الآلام عن أبدانهم لما أذاقهم من حلاوة مناجاته ، ولما أفادهم من ظرائف الفوائد من عنده ، فيا حسنهم والليل قد أقبل بحنادس ظلمته ، وهدأت عنهم أصوات خليقته ، وقدموا إلى سيدهم الذين له يأملون ، فلو رأيت أيها البطال أحدهم وقد قام إلى صلاته وقراءته ، فلما وقف في محرابه واستفتح كلام سيده خطر على قلبه أن ذلك المقام هو المقام الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين فانخلع قلبه وذهل عقله ، فقلوبهم في ملكوت السماوات معلقة ، وأبدانهم بين أيدي الخلائق عارية وهمومهم بالفكر دائمة ، فما ظنك بأقوام أخيار أبرار ، وقد خرجوا من رق الغفلة واستراحوا من وثائق الفترة وأنسوا بيقين المعرفة ، وسكنوا إلى روح الجهاد والمراقبة ، بلغنا الله وإياكم هذه الدرجة " .
حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا أبو بكر الدينوري ، ح وحدثنا محمد بن إسحاق الشمشاطي ، قال : سمعت ذا النون يقول : بينا أنا أسير في جبالأنطاكية وإذا أنا بجارية كأنها مجنونة وعليها جبة من صوف فسلمت عليها ، فردت السلام ، ثم قالت : ألست ذا النون المصري ، قلت : عافاك الله كيف عرفتيني ؟ قالت : فتق الحبيب بيني وبين قلبك فعرفتك باتصال معرفة حب الحبيب ، ثم قالت : أسألك مسألة ؟ قلت : سليني قالت أي شيء السخاء ؟ قلت : البذل والعطاء قالت : هذا السخاء في الدنيا فما السخاء في الدين ؟ قلت : المسارعة إلى طاعة المولى ، قالت : فإذا سارعت إلى طاعة المولى تحب منه خيرا ؟ قلت : نعم للواحد عشرة ، قالت : مر بإبطال هذا ، هذا في الدين قبيح ، ولكن المسارعة إلى طاعة المولى أن يطلع إلى قلبك وأنت لا تريد منه شيئا بشيء ، ويحك يا ذا النون إني أريد أن أقسم عليه في طلب شهوة منذ عشرين سنة فأستحيي منه مخافة أن أكون كأجير السوء إذا عمل طلب الأجر ، ولكن أعمل تعظيما لهيبته وعز جلاله ، قال : ثم مرت وتركتني .
[ ص: 341 ] حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، وأحمد بن محمد بن أبان ، قالا : ثنا سعيد بن عثمان ، حدثني ذو النون ، قال : بينا أنا في بعض مسيري إذ لقيتني امرأة فقالت لي : من أين أنت ؟ قلت : رجل غريب ، فقالت لي : ويحك وهل يوجد مع الله أحزان الغربة ؟ وهو مؤنس الغرباء ، ومعين الضعفاء ؟ قال : فبكيت ، فقالت لي : ما يبكيك ؟ قلت : وقع الدواء على داء قد قرح فأسرع لي نجاحه ، قالت : فإن كنت صادقا فلم بكيت ؟ قلت : والصادق لا يبكي ؟ قالت : لا ، قلت : ولم ؟ قالت : لأن البكاء راحة للقلب ، وملجأ يلجأ إليه ، وما كتم القلب شيئا أحق من الشهيق والزفير ، فإذا أسبلت الدمعة استراح القلب ، وهذا ضعف الأطباء بإبطال الداء ، قال : فبقيت متعجبا من كلامها ، فقالت لي : ما لك ؟ قلت : تعجبت من هذا الكلام ، قالت : وقد نسيت القرحة التي سألت عنها ؟ قلت : لا ، ما أنا بالمستغني عن طلب الزوائد ، قالت : صدقت ، حب ربك سبحانه ، واشتق إليه فإن له يوما يتجلى فيه على كرسي كرامته لأوليائه وأحبائه فيذيقهم من محبته كأسا لا يظمئون بعده أبدا ، قال : ثم أخذت في البكاء والزفير والشهيق ، وهي تقول : سيدي إلى كم تخلفني في دار لا أجد فيها أحدا يسعفني على البكاء أيام حياتي - ثم تركتني ومضت .
حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، ثنا سعيد بن عثمان ، قال : سمعت ذا النون يقول : كم من مطيع مستأنس ، وكم عاص مستوحش ، وكم من محب ذليل ، وكل راج طالب قال : وسمعته يقول : اعلموا أن العاقل يعترف بذنبه ، ويحس بذنب غيره ، ويجود بما لديه ويزهد فيما عند غيره ، ويكف أذاه ويحتمل الأذى عن غيره والكريم يعطي قبل السؤال ، فكيف يبخل بعد السؤال ؟ ويعذر قبل الاعتذار ، فكيف يحقد بعد الاعتذار ؟ ويعف قبل الامتناع فكيف يطمع في الازدياد ، قال : وسمعته يقول : ثلاثة من أعلام المحبة : الرضا في المكروه ، وحسن الظن في المجهول ، والتحسين في الاختيار في المحذور ، وثلاثة من أعلام الصواب : الأنس به في جميع الأحوال ، والسكون إليه في جميع الأعمال ، وحب الموت بغلبة الشوق في جميع الأشغال ، وثلاثة من أعمال اليقين : النظر إلى الله تعالى [ ص: 342 ] في كل شيء ، والرجوع إليه في كل أمر ، والاستعانة به في كل حال ، وثلاثة من أعمال الثقة بالله : السخاء بالموجود ، وترك الطلب للمفقود ، والاستنابة إلى فضل الموجود ، وثلاثة منأعمال الشكر : المقاربة من الإخوان في النعمة ، واستغنام قضاء الحوائج قبل العطية ، واستقلال الشكر لملاحظة المنة ، وثلاثة من أعلام الرضى: ترك الاختيار قبل القضا ، وفقدان المرارة بعد القضا ، وهيجان الحب في حشو البلا ، وثلاثة من أعمال الأنس بالله : استلذاذ الخلوة ، والاستيحاش من الصحبة ، واستحلاء الوحدة ، وثلاثة من أعلام حسن الظن بالله : قوة القلب ، وفسحة الرجا في الزلة ، ونفي الإياس بحسن الإنابة ، وثلاثة من أعلام الشوق : حب الموت مع الراحة وبغض الحياة مع الدعة ، ودوام الحزن مع الكفاية " . حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الأصبهاني ، ثنا أحمد بن محمد بن حمدان النيسابوري ، ثنا عبد القدوس بن عبد الرحمن الشاشي ، قال : سمعت ذا النون المصري يقول : " إلهي ما أصغي إلى صوت حيوان ولا حفيف شجر ، ولا خرير ماء ، ولا ترنم طائر ، ولا تنعم ظل ، ولا دوي ريح ، ولا قعقعة رعد إلا وجدتها شاهدة بوحدانيتك دالة على أنه ليس كمثلك شيء ، وأنك غالب لا تغلب وعالم لا تجهل ، وحليم لا تسفه ، وعدل لا تجور ، وصادق لا تكذب ، إلهي فإني أعترف لك اللهم بما دل عليه صنعك ، وشهد لك فعلك ، فهب لي اللهم طلب رضاك برضاي ومسرة الوالد لولده يذكرك لمحبتي لك ، ووقار الطمأنينة وتطلب العزيمة إليك ; لأن من لم يشبعه الولوع باسمك ولم يروه من ظمائه ورود غدران ذكرك ، ولم ينسه جميع الهموم رضاه عنك ، ولم يلهه عن جميع الملاهي تعداد آلائك ، ولم يقطعه عن الأنس بغيرك مكانه منك كانت حياته ميتة ، وميتته حسرة ، وسروره غصة وأنسه وحشة ، إلهي عرفني عيوب نفسي وافضحها عندي لأتضرع إليك في التوفيق للتنزه عنها ، وأبتهل إليك بين يديك خاضعا ذليلا في أن تغسلني منها ، واجعلني من عبادك الذين شهدت أبدانهم وغابت قلوبهم [ ص: 343 ] تجول في ملكوتك وتتفكر في عجائب صنعك ، ترجع بفوائد معرفتك وعوائد إحسانك ، قد ألبستهم خلع محبتك وخلعت عنهم لباس التزين لغيرك ، إلهي لا تترك بيني وبين أقصى مرادك حجابا إلا هتكته ، ولا حاجزا إلا رفعته ، ولا وعرا إلا سهلته ، ولا بابا إلا فتحته ، حتى تقيم قلبي بين ضياء معرفتك ، وتذيقني طعم محبتك ، وتبرد بالرضى منك فؤادي وجميع أحوالي حتى لا أختار غير ما تختاره ، وتجعل لي مقاما بين مقامات أهل ولايتك ، ومضطربا فسيحا في ميدان طاعتك ، إلهي كيف أسترزق من لا يرزقني إلا من فضلك ؟ أم كيف أسخطك في رضى من لا يقدر على ضري إلا بتمكينك ؟ فيا من أسأله إيناسا به وإيحاشا من خلقه ، ويا من إليه التجائي في شدتي ورجائي ، ارحم غربتي وهب لي من المعرفة ما أزداد به يقينا ، ولا تكلني إلى نفسي الأمارة بالسوء طرفة عين " .
حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، ثنا سعيد بن عثمان الخليط ، عن أبي الفيض ذي النون المصري ، قال : إن لله لصفوة من خلقه ، وإن لله لخيرة من خلقه ، قيل له : يا أبا الفيض فما علامتهم ؟ قال : إذا خلع العبد الراحة وأعطى المجهود في الطاعة وأحب سقوط المنزلة ، قيل له : يا أبا الفيض فما علامة إقبال الله عز وجل على العبد ؟ قال : إذا رأيته صابرا شاكرا ذاكرا فذلك علامة إقبال الله على العبد ، قيل : فما علامة إعراض الله عن العبد ؟ قال : إذا رأيته ساهيا راهبا معرضا عن ذكر الله ، فذاك حين يعرض الله عنه ، ثم قال : ويحك كفى بالمعرض عن الله وهو يعلم أن الله مقبل عليه وهو معرض عن ذكره ، قيل له : يا أبا الفيض فما علامة الأنس بالله ؟ قال : إذا رأيته يؤنسك بخلقه فإنه يوحشك من نفسه ، وإذا رأيته يوحشك من خلقه فإنه يؤنسك بنفسه ، ثم قال أبو الفيض : الدنيا والخلق لله عبيد ، خلقهم للطاعة وضمن لهم أرزاقهم ونهاهم وحذرهم وأنذرهم ، فحرصوا على ما نهاهم الله عنه ، وطلبوا الأرزاق وقد ضمنها الله لهم ، فلا هم في أرزاقهم استزادوا ، ثم قال : عجبا لقلوبكم كيف لا تتصدع ! ولأجسامكم كيف لا تتضعضع ، إذا كنتم تسمعون ما أقول لكم وتعقلون " .
حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا أبو بكر الدينوري ، ثنا محمد بن أحمد [ ص: 344 ] الشمشاطي ، قال : سمعت ذا النون المصري ، يقول : " بينا أنا سائر على شاطئ نيل مصر إذ أنا بجارية تدعو وهي تقول في دعائها : يا من هو عند ألسن الناطقين ، يا من هو عند قلوب الذاكرين ، يا من هو عند فكرة الحامدين ، يا من هو على نفوس الجبارين والمتكبرين ، قد علمت ما كان مني ، يا أمل المؤملين ، قال : ثم صرخت صرخة خرت مغشيا عليها ، قال : وسمعت ذا النون يقول : دخلت على سواد نيل مصر فجاءني الليل فقمت بين زروعها ، فإذا أنا بامرأة سوداء قد أقبلت إلى سنبلة ففركتها ، ثم امتنعت عليها فتركتها وبكت ، وهي تقول : يا من بذره حبا يابسا في أرضه ولم يك شيئا ، أنت الذي صيرته حشيشا ، ثم أنبته عودا قائما بتكوينك ، وجعلت فيه حبا متراكبا ، ودورته فكونته وأنت على كل شيء قدير .
وقالت : عجبت لمن هذه مشيئته كيف لا يطاع ، وعجبت لمن هذا صنعه كيف يشتكى ، فدنوت منها فقلت : من يشكو أمل المؤملين ، فقالت لي : أنت يا ذا النون ، إذا اعتللت فلا تجعل علتك إلى مخلوق مثلك ، واطلب دواءك ممن ابتلاك وعليك السلام ، لا حاجة لي في مناظرة البطالين ، ثم أنشأت تقول :
حدثنا محمد بن أحمد بن الصباح ، ثنا أبو بكر محمد بن خلف المؤدب - وكان من خيار عباد الله - قال : رأيت ذا النون المصري على ساحل البحر عند صخرة موسى ، فلما جن الليل خرج فنظر إلى السماء والماء ، فقال : سبحان الله ، ما أعظم شأنكما ، بل شأن خالقكما أعظم منكما ومن شأنكما ، فلما تهور الليل لم يزل ينشد هذين البيتين إلى أن طلع عمود الصبح :
أنشدنا عثمان بن محمد العثماني قال : أنشدني العباس بن أحمد لذي النون المصري :
حدثنا أبو بكر محمد بن محمد بن عبيد الله ، ثنا أبو العباس أحمد بن عيسى الوشاء ، ثنا أبو عثمان سعيد بن الحكم - تلميذ ذي النون - قال : سئلذو النون : ما سبب الذنب ؟ قال : اعقل ويحك ما تقول ، فإنها من مسائل الصديقين ، سبب الذنب النظرة ، ومن النظرة الخطرة ، فإن تداركت الخطرة بالرجوع إلى الله ذهبت ، وإن لم تذكرها امتزجت بالوساوس فتتولد منها الشهوة وكل ذلك بعد باطن لم يظهر على الجوارح ، فإن تذكرت الشهوة ، وإلا تولد منها الطلب ، فإن تداركت الطلب وإلا تولد منه العقل .
حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد ، ثنا أحمد بن عيسى الوشاء ، قال : سمعت أبا عثمان سعيد بن الحكم يقول : سمعت أبا الفيض ذا النون بن إبراهيم يقول : بينما أنا أسير ذات ليلة ظلماء في جبال بيت المقدس إذ سمعت صوتا حزينا وبكاء جهيرا ، وهو يقول : يا وحشتاه بعد أنسنا يا غربتاه عن وطننا وافقراه بعد غنانا ، واذلاه بعد عزنا ، فتبعت الصوت حتى قربت منه ، فلم أزل أبكي لبكائه حتى إذا أصبحنا نظرت إليه فإذا رجل ناحل كالشن المحترق ، فقلت : يرحمك الله تقول مثل هذا الكلام ، فقال : دعني فقد كان لي قلب فقدته ، ثم أنشأ يقول :
فقلت له :
حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن مقسم ، قال : سمعت أبا محمد الحسن بن علي بن خلف ، يقول : سمعت إسرافيل يقول : سمعت ذا النون يقول : إن سكت [ ص: 346 ] علم ما تريد ، وإن نطقت لم تنل بنطقك ما لا يريد ، وعلمه بمرادك ينبغي أن يغنيك عن مسألته أو ينجيك عن مطالبته ".
حدثنا أحمد بن محمد ، قال : سمعت أبا محمد يقول : سمعت إسرافيل يقول : سمعت ذا النون يقول : سمعت بعض المتعبدين بساحل بحر الشام ، يقول : إن لله عبادا عرفوه بيقين من معرفته فشمروا قصدا إليه ، احتملوا فيه المصائب لما يرجون عنده من الرغائب ، صحبوا الدنيا بالأشجان ، وتنعموا فيها بطول الأحزان فما نظروا إليها بعين راغب ، ولا تزودوا منها إلا كزاد الراكب ، خافوا البيات فأسرعوا ، ورجوا النجاة فأزمعوا ، بذكره لهجت ألسنتهم في رضى سيدهم ، نصبوا الآخرة نصب أعينهم ، وأصغوا إليها بآذان قلوبهم ، فلو رأيتهم رأيت قوما ذبلا شفاههم ، خمصا بطونهم ، حزينة قلوبهم ، ناحلة أجسامهم ، باكية أعينهم ، لم يصحبوا العلل والتسويف ، وقنعوا من الدنيا بقوت طفيف ، لبسوا من اللباس أطمارا بالية ، وسكنوا من البلاد قفارا خالية ، هربوا من الأوطان واستبدلوا الوحدة من الإخوان ، فلو رأيتهم لرأيت قوما قد ذبحهم الليل بسكاكين السهر ، وفصل الأعضاء منهم بخناجر التعب ، خمص لطول السرى ، شعث لفقد الكرا ، قد وصلوا الكلال بالكلال للنقلة والارتحال .
أخبرنا أحمد قال : سمعت أبا محمد يقول : سمعت إسرافيل يقول : حضرت ذا النون في الحبس وقد دخل الجلواذ بطعام له ، فقام ذو النون فنفض يده فقيل له : إن أخاك جاء به ، فقال : إنه مر على يدي ظالم ، قال : وسمعت رجلا سأل ذا النون فقال : رحمك الله ! ما الذي أنصب العباد وأضناهم ؟ فقال : ذكر المقام ، وقلة الزاد ، وخوف الحساب ، ثم سمعته يقول بعد فراغه من كلامه : ولم لا تذوب أبدان العمال وتذهل عقولهم ، والعرض على الله أمامهم ، وقراءة كتبهم بين أيديهم ، والملائكة وقوف بين يدي الجبار ينتظرون أمره في الأخيار والأشرار ، ثم قال : مثلوا هذا في نفوسهم وجعلوه نصب أعينهم ، قال : وسمعت [ ص: 347 ] ذا النون ، يقول : قال الحسن : ما أخاف عليكم منع الإجابة إنما أخاف عليكم منع الدعاء " .
حدثنا أحمد بن محمد بن مقسم ، ثنا أحمد بن محمد بن سهل الصيرفي ، ثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان قال : سمعت ذا النون يقول : " إن الطبيعة النقية هي التي يكفيها من العظمة رائحتها ، ومن الحكمة إشارة إليها " .
حدثنا أحمد بن محمد ، ثنا الحسن بن علي بن خلف قال : سمعت إسرافيل يقول : أنشدنا ذو النون بن إبراهيم المصري فقال :
حدثنا أحمد قال : سمعت أبا محمد يقول : سمعت إسرافيل يقول : سمعت ذا النون يقول : كتب رجل إلى عالم : ما الذي أكسبك علمك من ربك ، وما أفادك في نفسك ؟ فكتب إليه العالم : أثبت العلم الحجة ، وقطع عمود الشك والشبهة ، وشغلت أيام عمري بطلبه ، ولم أدرك منه ما فاتني ، فكتب إليه الرجل : العلم نور لصاحبه ، ودليل على حظه ، ووسيلة إلى درجات السعداء ، فكتب إليه العالم : أبليت إليه في طلبه جدة الشباب ، وأدركني حين علمت الضعف عن العمل به ، ولو اقتصرت منه على القليل كان لي فيه مرشد إلى السبيل .
حدثنا أحمد قال : سمعت أبا محمد يقول : سمعت إسرافيل يقول : سأل رجل ذا النون المصري عن سؤال ، فقال له ذو النون : " قلبي لك مقفل ، فإن فتح لك [ ص: 348 ] أجبتك ، وإن لم يفتح لك فاعذرني واتهم نفسك " . حدثنا عثمان بن محمد بن عثمان ، ثنا محمد بن أحمد الواعظ ، ثنا العباس بن يوسف الشكلي ، ثنا سعيد بن عثمان ، قال : كنت مع ذي النون في تيه بني إسرائيل فبينا نحن نسير إذا بشخص قد أقبل فقلت : أستاذ شخص ، فقال لي : انظر فإنه لا يضع قدمه في هذا المكان إلا صديق ، فنظرت فإذا امرأة ، فقلت : إنها امرأة فقال : صديقة ورب الكعبة ، فابتدر إليها وسلم عليها فردت السلام ، ثم قالت : ما للرجل ومخاطبة النساء ؟ فقال لها : إني أخوك ذو النون ولست من أهل التهم ، فقالت : مرحبا حياك الله بالسلام ، فقال لها : ما حملك على الدخول إلى هذا الموضع ؟ فقالت : آية في كتاب الله تعالى : ( ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ) فكلما دخلت إلى موضع يعصى فيه لم يهنني القرار فيه بقلب قد أبهلته شدة محبته ، وهام بالشوق إلى رؤيته ، فقال لها : صفي لي ، فقالت : يا سبحان الله ! أنت عارف تكلم بلسان المعرفة تسألني ؟ فقال : يحق للسائل الجواب ، فقالت : نعم ، المحبة عندي لها أول وآخر ، فأولها لهج القلب بذكر المحبوب ، والحزن الدائم ، والتشوق اللازم ، فإذا صاروا إلى أعلاها شغلهم وجدان الخلوات عن كثير من أعمال الطاعات ، ثم أخذت في الزفير والشهيق ، وأنشأت تقول :
ثم شهقت شهقة ، فإذا هي قد فارقت الدنيا .
حدثنا عثمان بن محمد بن أحمد ، ثنا العباس بن يوسف قال : سمعت سعيد بن عثمان يقول : سمعت ذا النون يقول : وصف لي رجل بشاهرتفقصدته ، فأقمت على بابه أربعين يوما ، فلما كان بعد ذلك رأيته ، فلما رآني هرب مني ، فقلت له : سألتك بمعبودك إلا وقفت علي وقفة ، فقلت : سألتك بالله بم عرفت [ ص: 349 ] الله ، وبأي شيء تعرف إليك الله حتى عرفته ؟ فقال لي : نعم ، رأيت لي حبيبا إذا قربت منه قربني وأدناني ، وإذا بعدت صوت بي وناداني ، وإذا قمت بالفترة رغبني ومناني ، وإذا عملت بالطاعة زادني وأعطاني ، وإذا عملت بالمعصية صبر علي وتأناني ، فهل رأيت حبيبا مثل هذا ؟ انصرف عني ولا تشغلني ثم ولى ، وهو يقول :
حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، ثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان قال : سمعت ذا النون يقول : مدح الله تعالى الشوق لنوره السماوات ، وأنى لوجهه الظلمات ، وحجبه بجلالته عن العيون ، ووصل بها معارف العقول ، وأنفذ إليه أبصار القلوب ، وناجاه على عرشه ألسنة الصدور ؟إلهي لك تسبح كل شجرة ، ولك تقدس كل مدرة بأصوات خفية ونغمات زكية ، إلهي قد وقفت بين يديك قدمي ، ورفعت إليك بصري ، وبسطت إلى مواهبك يدي ، وصرخ إليك صوتي ، وأنت الذي لا يضجره الندا ولا تخيب من دعاك ، إلهي هب لي بصرا يرفعه إليك صدقه ، فإن من تعرف إليك غير مجهول ، ومن يلوز بك غير مخذول ، ومن يبتهج بك مسرور ومن يعتصم بك منصور .
قال الشيخ أبو نعيم رحمه الله تعالى : حدثنا أبي ، ثنا أحمد ، ثنا سعيد قال : سمعت ذا النون يقول : إن لله خالصة من عباده ، ونجباء من خلقه ، وصفوة من بريته صحبوا الدنيا بأبدان ، أرواحها في الملكوت معلقة ، أولئك نجباء الله من عباده ، وأمناء الله في بلاده ، والدعاة إلى معرفته ، والوسيلة إلى دينه ، هيهات بعدوا وفاتوا ، ووارتهم بطون الأرض وفجاجها على أنه لا تخلو الأرض من قائم فيها بحجته على خلقه لئلا تبطل حجج الله ، ثم قال : وأين ؟ أولئك قوم حجبهم الله من عيون خلقه ، وأخفاهم عن آفات الدنيا وفتنها ، ألا وهم [ ص: 350 ] الذين قطعوا أودية الشكوك باليقين ، واستعانوا على أعمال الفرائض بالعلم ، واستدلوا على فساد أعمالهم بالمعرفة ، وهربوا من وحشة الغفلة وتسربلوا بالعلم لاتقاء الجهالة ، واحتجزوا عن الغفلة بخوف الوعيد ، وجدوا في صدق الأعمال لإدراك الفوت ، وخلوا عن مطامع الكذب ومعانقة الهوى ، وقطعوا عرى الارتياب بروح اليقين ، وجاوزوا ظلم الدجى ، ودحضوا حجج المبتدعين باتباع السنن ، وبادروا إلى الانتقال عن المكروه قبل فوت الإمكان ، وسارعوا في الإحسان تعريضا للقعود عن الإساءة ، ولاقوا النعم بالشكر استجلالا لمزيده ، وجعلوه نصب أعينهم عند خواطر الهمم وحركات الجوارح من زينة الدنيا وغرورها ، فزهدوا فيها عيانا ، وأكلوا منها قصدا وقدموا فضلا ، وأحرزوا ذخرا ، وتزودوا منها التقوى ، وشمروا في طلب النعيم بالسير الحثيث والأعمال الزكية ، وهم يظنون بل لا يشكون أنهم مقصرون ، وذلك أنهم عقلوا فعرفوا ، ثم اتقوا وتفكروا ، فاعتبروا حتى أبصروا ، فلما أبصروا استولت عليهم طرقات أحزان الآخرة ، فقطع بهم الحزن حركات ألسنتهم عن الكلام من غير عي خوفا من التزين فيسقطوا من عين الله ، فأمسكوا وأصبحوا في الدنيا مغمومين وأمسوا فيها مكروبين ، مع عقول صحيحة ، ويقين ثابت ، وقلوب شاكرة ، وألسن ذاكرة وأبدان صابرة وجوارح مطيعة ، أهل صدق ونصح وسلامة وصبر وتوكل ورضى وإيمان ، عقلوا عن الله أمره فشغلوا الجوارح فيما أمروا به ، وذكر وحياء ، وقطعوا الدنيا بالصبر على لزوم الحق وهجروا الهوى بدلالات العقول وتمسكوا بحكم التنزيل وشرائع السنن ، ولهم في كل ثارة منها دمعة ولذة وفكرة وعبرة ، ولهم مقام على المزيد للزيادة ، فرحمة الله علينا وعليهم وعلى جميع المؤمنين والصالحين " .
قال : وسمعت ذا النون يقول : إياك أن تكون في المعرفة مدعيا وتكون بالزهد محترفا وتكون بالعبادة متعلقا ، فقيل له : يرحمك الله ! فسر لنا ذلك فقال : أما علمت أنك إذا أشرت في المعرفة إلى نفسك بأشياء وأنت معرى من حقائقها كنت مدعيا ؟ وإذا كنت في الزهد موصوفا بحالة وبك دون الأحوال كنت محترفا ، وإذا علقت بالعبادة قلبك وظننت أنك تنجو من الله بالعبادة لا بالله كنت بالعبادة متعلقا لا بوليها والمنان عليك ؟ " قال : وسمعت [ ص: 351 ] ذا النون يقول : " معاشرة العارف كمعاشرة الله يحتمل عنك ويحلم عنك تخلقا بأخلاق الله الجميلة " ، قال : وسمعت ذا النون يقول : " أهل الذمة يحملون على الحال المحمودة والمباح من الفعل ، فما الفرق بين الذمي والحنيفي ، الحنيفي أولى بالحلم والصفح والاحتمال " .
حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم ، ثنا أبو حامد أحمد بن محمد النيسابوري ، ثنا عبد القدوس بن عبد الرحمن قال : قيل لأبي الفيض ذي النون : كيف أصبحت ؟ قال : أصبحت تعبا إن نفعني تعبي والموت يجد في طلبي ، وقيل له : كيف أصبحت ؟ فقال : أصبحت مقيما على ذنب ونعمة ، فلا أدري من الذنب أستغفر أم على النعمة أشكر ، وقيل له : كيف أصبحت ؟ قال : أصبحت بطالا عن العبادة متلوثا بالمعاصي ، أتمنى منازل الأبرار وأعمل عمل الأشرار .
وسمعت ذا النون يقول : " إلهي لو أصبت موئلا في الشدائد غيرك أو ملجأ في المنازل سواك لحق لي أن لا أعرض إليه بوجهي عنك ، ولا أختاره عليك ، لقديم إحسانك إلي وحديثه ، وظاهر منتك علي وباطنها ، ولو تقطعت في البلاد إربا إربا ، وانصبت علي الشدائد صبا صبا ، ولا أجد مشتكى غيرك ، ولا مفرجا لما بي عن سواك ، فيا وارث الأرض ومن عليها ، ويا باعث جميع من فيها ، ورث أملي فيك مني أملي ، وبلغ همي فيك منتهى وسائلي " .
حدثنا عثمان بن محمد العثماني ، ثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عيسى الرازي ، ثنا محمد بن أحمد بن سلمة النيسابوري قال : سمعت ذا النونيقول : يا خراساني احذر أن تنقطع عنه فتكون مخدوعا ، قلت : وكيف ذلك ؟ قال : لأن المخدوع من ينظر إلى عطاياه فينقطع عن النظر إليه بالنظر إلى عطاياه ، ثم قال : تعلق الناس بالأسباب وتعلق الصديقون بولي الأسباب ، ثم قال : علامة تعلق قلوبهم بالعطايا طلبهم منه العطايا ، ومن علامة تعلق قلب الصديق بولي العطايا انصباب العطايا عليه وشغله عنها به ، ثم قال : ليكن اعتمادك على الله في الحال لا على الحال مع الله ، ثم قال : اعقل فإن هذا من صفوة التوحيد " .
حدثنا عثمان بن محمد ، ثنا الحسن بن أبي الحسن ، ثنا محمد بن يحيى بن آدم ، [ ص: 352 ] ثنا أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الخواص قال :سمعت ذا النون يقول : من أدرك طريق الآخرة فليكثر مساءلة الحكماء ومشاورتهم ، ولكن أول شيء يسأل عنه العقل ; لأن جميع الأشياء لا تدرك إلا بالعقل ، ومتى أردت الخدمة لله فاعقل لم تخدم ثم اخدم " .
حدثنا عثمان بن أحمد ، ثنا أحمد بن محمد بن عيسى ، قال : سمعت يوسف بن الحسن يقول : أتى رجل من أهل البصرة ذا النون فسأله : متى تصح لي عزلة الخلق ؟ قال : إذا قويت على عزلة نفسك . قال : فمتى يصح طلبي للزهد قال : إذا كنت زاهدا في نفسك ، هاربا من جميع ما يشغلك عن الله ; لأن جميع ما شغلك عن الله هي دنيا . قال يوسف : فذكرت ذلك لطاهر القدسي فقال : هذا نزل أخبار المرسلين .
حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، ثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان ، قال : سمعت ذا النون المصري - وسئل : أي الحجاب أخفى الذي يحتجب به المريد عن الله ؟ فقال : ويحك : ملاحظة النفس وتدبيرها ، وقال ذو النون : وقال بعضهم : علم القوم بأن الله يراهم على حال فاحترزوا به عمن سواه ، فقال له غيره من أصحابه من الزهاد - وكان حاضرا بمجلسه يقال له طاهر - يا أبا الفيض رحمك الله ! بل نظروا بعين اليقين إلى محبوب القلوب فرأوه في كل حالة موجودا ، وفي كل لمحة ولحظة قريبا بكل رطب ويابس عليما ، وعلى كل ظاهر وباطن شهيدا ، وعلى مكروه ومحبوب قائما ، وعلى تقريب البعيد وتبعيد القريب مقتدرا ، ولهم في كل الأحوال والأعمال سائسا ، ولما يريدهم به موفقا ، فاستغنوا بسياسته وتدبيره وتقويته عن تدبير أنفسهم ، وخاضوا البحار وقطعوا القفار بروح النظر إلى نظره البهيج ، وخرقوا الظلمات بنور مشاهدته ، وتجرعوا المرارات بحلاوة وجوده ، وكابدوا الشدائد واحتملوا الأذى في جنب قربه وإقباله عليهم ، وخاطروا بالنفوس فيما يعلمون ويحملون ثقة منهم باجتيازه ، ورضوا بما يضعهم فيه من الأحوال محبة منهم لإرادته وموافقة لرضاه ، ساخطين على أنفسهم معرفة منهم بحقه ، واستعدادا للعقوبة [ ص: 353 ] بعدله عليهم ، فأداهم ذلك إلى الابتلاء منه فلم تسع عقولهم ومفاصلهم وقلوبهم محبة لغيره ، ولم تبق زنة خردلة منهم خالية منه ولا باقيا فيهم سواه ، فهم له بكليتهم ، وهو لهم حظ في الدنيا والآخرة ، وقد رضي عنهم ورضوا عنه ، وأحبهم فأحبوه ، وكانوا له وكان لهم ، وآثروه وآثرهم ، وذكروه فذكرهم ( أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ) فصاح عند ذلك ذو النون ، وقال : أين هؤلاء ؟ وكيف الطريق إليهم وكيف المسلك ؟ فصاح به : يا أبا الفيض الطريق مستقيم ، والحجة واضحة ، فقال له : صدقت والله يا أخي ، فالهرب إليه ولا تعرج إلى غيره .
حدثنا أبي ، ثنا أحمد ، ثنا سعيد بن عثمان قال : سمعت ذا النون يقول : ويحك من ذكر الله على حقيقة نسي في حبه كل شيء ، ومن نسي في حبه كل شيء حفظ الله عليه كل شيء وكان له عوضا في كل شيء ، قال : وسمعت ذا النون وأتاه رجل فقال : يا أبا الفيض دلني على طريق الصدق والمعرفة ، فقال : يا أخي أد إلى الله صدق حالتك التي أنت عليها على موافقة الكتاب والسنة ، ولا ترق حيث لم ترق فتزل قدمك فإنه إذا زل بك لم تسقط ، وإذا ارتقيت أنت تسقط ، وإياك أن تترك ما تراه يقينا لما ترجوه شكا ، قال : وسمعت ذا النون يقول وسئل : متى يجوز للرجل أن يقول : أراني الله كذا وكذا ؟ فقال : إذا لم يطق ذلك ، ثم قال ذو النون : أكثر الناس إشارة إلى الله في الظاهر أبعدهم من الله ، وأرغب الناس في الدنيا وأخفاهم لها طلبا أكثرهم لها ذما عند طلابها ، قال : وسمعته يقول : كلت ألسنة المحققين لك عن الدعاوى ، ونطقت ألسنة المدعين لك بالدعاوى ، قال : وسمعت ذا النون يقول : لا يزال العارف ما دام في دار الدنيا مترددا بين الفقر والفخر ، فإذا ذكر الله افتخر وإذا ذكر نفسه افتقر ، قال : وسمعت ذا النون وسئل : بم عرف العارفون ربهم ؟ فقال : إن كان بشيء فبقطع الطمع والإشراف منهم على اليأس مع التمسك منهم بالأحوال التي أقامهم عليها وبذل المجهود من أنفسهم ، ثم إنهم وصلوا بعد إلى الله بالله .
حدثنا عثمان بن محمد العثماني ، ثنا أحمد بن عيسى الرازي ، قال : سمعت [ ص: 354 ] يوسف بن الحسين ، يقول : سمعت ذا النون المصري ، وذكر يوما علو المراتب وقرب الأولياء وفوائد الأصفياء وأنس المحبين ، فأنشأ يقول :
وقال يوسف : وسألت ذا النون : ما علامة الآخرة في الله ، قال : ثلاث : الصفاء ، والتعاون ، والوفاء . فالصفاء في الدين ، والتعاون في المواساة ، والوفاء في البلاء " .
حدثنا عثمان بن محمد ، حدثني أحمد بن عبد الله القرشي ، حدثني محمد بن خلف ، قال : سمعت إبراهيم بن عبد الله الصوفي ، يقول : سئل ذو النون عن سماع العظة الحسنة والنغمة الطيبة ، فقال : " مزامير أنس في مقاصير قدس بألحان توحيد في رياض تمجيد ، بمطربات الغواني في تلك المعاني المؤدية بأهلها إلى النعيم الدائم ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر . ثم قال : هذا لهم الخبر فكيف طعم النظر " .
ومنهم العلم المضي ، والحكم المرضي الناطق بالحقائق ، الفائق للطرائق ، له العبارات الوثيقة والإشارات الدقيقة . نظر فعبر وذكر فازدجر أبو الفيض [ ص: 332 ] ذو النون بن إبراهيم المصري رحمه الله تعالى .
حدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا علي بن الهيثم المصري ، قال : سمعت ذا النون المصري العابد أبا الفيض ، يقول : " اللهم اجعلنا من الذين جازوا ديار الظالمين ، واستوحشوا من مؤانسة الجاهلين ، وشابوا ثمرة العمل بنور الإخلاص ، واستقوا من عين الحكمة ، وركبوا سفينة الفطنة ، وأقلعوا بريح اليقين ، ولججوا في بحر النجاة ، ورسوا بشط الإخلاص . اللهم اجعلنا من الذين سرحت أرواحهم في العلا ، وحطت همم قلوبهم في عاريات التقى حتى أناخوا في رياض النعيم ، وجنوا من رياض ثمار التسنيم ، وخاضوا لجة السرور ، وشربوا بكأس العيش ، واستظلوا تحت العرش في الكرامة . اللهم اجعلنا من الذين فتحوا باب الصبر وردموا خنادق الجزع وجازوا شديد العقاب وعبروا جسر الهوى ، فإنه تعالى يقول : ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) اللهم اجعلنا من الذين أشارت إليهم أعلام الهداية ، ووضحت لهم طريق النجاة ، وسلكوا سبيل إخلاص اليقين " .
حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم ، حدثني أحمد بن محمد بن حمدان النيسابوري أبو حامد ، ثنا عبد القدوس بن عبد الرحمن الشامي ، قال : سمعت أبا الفيض ذا النون بن إبراهيم المصري يقول : " إلهي وسيلتي إليك نعمك علي ، وشفيعي إليك إحسانك إلي ، إلهي أدعوك في الملأ كما تدعى الأرباب ، وأدعوك في الخلا كما تدعى الأحباب ، أقول في الملأ : يا إلهي ، وأقول في الخلا : يا حبيبي ، أرغب إليك وأشهد لك بالربوبية مقرا بأنك ربي وإليك مردي ، ابتدأتني برحمتك من قبل أن أكون شيئا مذكورا ، وخلقتني من تراب ثم أسكنتني الأصلاب ، ونقلتني إلى الأرحام ، ولم تخرجني برأفتك في دولة أيمة ، ثم أنشأت خلقي من مني يمنى ، ثم أسكنتني في ظلمات ثلاث ؛ بين دم ولحم ملتاث ، وكونتني في غير صورة الإناث ، ثم نشرتني إلى الدنيا تاما سويا ، وحفظتني في المهد طفلا صغيرا صبيا ، ورزقتني من الغذاء لبنا مريا ، وكفلتني حجور الأمهات ، وأسكنت قلوبهم رقة لي وشفقة علي ، وربيتني بأحسن تربية ، ودبرتني بأحسن تدبير ، وكلأتني [ ص: 333 ] من طوارق الجن وسلمتني من شياطين الإنس ، وصنتني من زيادة في بدني تشينني ، ومن نقص فيه يعيبني ، فتباركت ربي وتعاليت يا رحيم ، فلما استهللت بالكلام أتممت علي سوابغ الإنعام ، وأنبتني زائدا في كل عام ، فتعاليت يا ذا الجلال والإكرام .
حتى إذا ملكتني شأني ، وشددت أركاني ، أكملت لي عقلي ، ورفعت حجاب الغفلة عن قلبي ، وألهمتني النظر في عجيب صنائعك وبدائع عجائبك ، وأوضحت لي حجتك ودللتني على نفسك ، وعرفتني ما جاءت به رسلك ، ورزقتني من أنواع المعاش وصنوف الرياش بمنك العظيم وإحسانك القديم ، وجعلتني سويا ، ثم لم ترض لي بنعمة واحدة دون أن أتممت علي جميع النعم ، وصرفت عني كل بلوى ، وأعلمتني الفجور لأجتنبه ، والتقوى لأقترفها ، وأرشدتني إلى ما يقربني إليك زلفى ، فإن دعوتك أجبتني ، وإن سألتك أعطيتني ، وإن حمدتك شكرتني ،وإن شكرتك زودتني .
إلهي فأي نعم أحصي عددا ؟! وأي عطائك أقوم بشكره ؟! أما أسبغت علي من النعماء أو صرفت عني من الضراء . إلهي أشهد لك بما شهد لك باطني وظاهري وأركاني ، إلهي إني لا أطيق إحصاء نعمك فكيف أطيق شكرك عليها ؟! وقد قلت وقولك الحق : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها )أم كيف يستغرق شكري نعمك ، وشكرك من أعظم النعم عندي ، وأنت المنعم به علي كما قلت سيدي : ( وما بكم من نعمة فمن الله ) وقد صدقت قولك .
إلهي وسيدي ، بلغت رسلك بما أنزلت إليهم من وحيك غير أني أقول بجهدي ومنتهى علمي ومجهود وسعي ومبلغ طاقتي : الحمد لله على جميع إحسانه حمدا يعدل حمد الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين " .
حدثنا عثمان بن محمد العثماني ، ثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد ، ثنا محمد بن عبد الملك بن هاشم ، قال : سمعت ذا النون المصري ، يقول في دعائه : " اللهم إليك تقصد رغبتي ، وإياك أسأل حاجتي ، ومنك أرجو نجاح طلبتي ، وبيدك مفاتيح مسألتي لا أسأل الخير إلا منك ، ولا أرجوه من غيرك ، ولا أيأس من روحك بعد معرفتي بفضلك ، يا من جمع كل شيء حكمته ، ويا من نفذ في كل شيء [ ص: 334 ] حكمه ، يا من الكريم اسمه ، لا أحد لي غيرك فأسأله ، ولا أثق بسواك فآمله ، ولا أجعل لغيرك مشيئة من دونك أعتصم بها وأتوكل عليه ، فمن أسأل إن جهلتك ، وبمن أثق بعد إذ عرفتك ، اللهم إن ثقتي بك ، وإن ألهتني الغفلات عنك وأبعدتني العثرات منك بالاغترار ، يا مقيل العثرات إن لم تتلافني بعصمة من العثرات فإني لا أحول بعزيمة من نفسي ، ولا أروم على خليفة بمكان من أمري .
أنا نعمة منك وأنا قدر من قدرك ، أجري في نعمك وأسرح في قدرك ، أزداد على سابقة علمك ولا أنتقص من عزيمة أمرك ، فأسألك يا منتهى السؤالات ، وأرغب إليك يا موضع الحاجات سواك ، من قد كذب كل رجاء إلا منك ، ورغبة من رغب عن كل ثقة إلا عنك ، أن تهب لي إيمانا أقدم به عليك ، وأوصل به عظم الوسيلة إليك ، وأن تهب لي يقينا لا توهنه بشبهة إفك ، ولا تهنه خطرة شك ، ترحب به صدري ، وتيسر به أمري ، ويأوي إلى محبتك قلبي ، حتى لا ألهو عن شكرك ، ولا أنعم إلا بذكرك ، يا من لا تمل حلاوة ذكره ألسن الخائفين ، ولا تكل من الرغبات إليه مدامع الخاشعين ، أنت منتهى سرائر قلبي في خفايا الكتم ، وأنت موضع رجائي بين إسراف الظلم .
من ذا الذي ذاق حلاوة مناجاتك فلها بمرضاة بشر عن طاعتك ومرضاتك ؟! رب أفنيت عمري في شدة السهو عنك ، وأبليت شبابي في سكرة التباعد منك ، ثم لم أستبطئ لك كلاءة ومنعة في أيام اغتراري بك وركوني إلى سبيل سخطك ، وعن جهل يا رب قربتني الغرة إلى غضبك ، وأنا عبدك ابن عبدك ، قائم بين يديك متوسل بكرمك إليك ، فلا يزيلني عن مقام أقمتني فيه غيرك ، ولا ينقلني من موقف السلامة من نعمك إلا أنت ، أتنصل إليك بما كنت أواجهك به من قلة استحيائي من نظرك ، وأطلب العفو منك يا رب إذ العفو نعمة لكرمك ، يا من يعصى ويتاب إليه فيرضى كأنه لم يعص ، بكرم لا يوصف وتحنن لا ينعت ، يا حنان بشفقته يا متجاوزا بعظمته ، لم يكن لي حول فأنتقل عن معصيتك إلا في وقت أيقظتني فيه لمحبتك ، وكما أردت أن أكون كنت ، وكما رضيت أن أقول قلت ، خضعت لك وخشعت لك [ ص: 335 ] إلهي لتعزني بإدخالي في طاعتك ، ولتنظر إلي نظر من ناديته فأجابك واستعملته بمعونتك فأطاعك ، يا قريب لا تبعد عن المعتزين ، ويا ودود لا تعجل على المذنبين اغفر لي وارحمني يا أرحم الراحمين " . حدثنا محمد بن محمد بن عبد الله بن زيد ، ثنا أبو العباس أحمد بن عيسى الوشاء ، ثنا سعيد بن عبد الحكم ، قال : سمعت ذا النون يقول : خرجت في طلب المناجاة فإذا أنا بصوت فعدلت إليه فإذا أنا برجل قد غاص في بحر الوله ، وخرج علي ساحل الكمه ، وهو يقول في دعائه : أنت تعلم أني لا أعلم أن الاستغفار مع الإصرار لؤم ، وأن تركي الاستغفار مع معرفتي بسعة رحمتك لعجز ، إلهي أنت الذي خصصت خصائصك بخالص الإخلاص ، وأنت الذي سلمت قلوب العارفين من اعتراض الوسواس ، وأنت آنست الآنسين من أوليائك ، وأعطيتهم كفاية رعاية المتوكلين عليك ، تكلؤهم في مضاجعهم ، وتطلع على سرائرهم ، وسري عندك مكشوف ، وأنا إليك ملهوف . قال : ثم سكنت صرخته فلم أسمع له صوتا .
حدثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، ثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان ، قال : سمعت ذا النون أبا الفيض ، يقول : " اللهم اجعلنا من الذين تفكروا فاعتبروا ، ونظروا فأبصروا ، وسمعوا فتعلقت قلوبهم بالمنازعة إلى طلب الآخرة حتى أناخت وانكسرت عن النظر إلى الدنيا وما فيها ، ففتقوا بنور الحكم ما رتقه ظلم الغفلات وفتحوا أبواب مغاليق العمى بأنوار مفاتيح الضياء ، وعمروا مجالس الذاكرين بحسن مواظبة استيدام الثناء ، اللهم اجعلنا من الذين تراسلت عليهم ستور عصمة الأولياء ، وحصنت قلوبهم بطهارة الصفاء ، وزينتها بالفهم والحياء ، وطيرت همومهم في ملكوت سماواتك حجابا حتى تنتهي إليك فرددتها بظرائف الفوائد . اللهم اجعلنا من الذين سهل عليهم طريق الطاعة ، وتمكنوا في أزمة التقوى ، ومنحوا بالتوفيق منازل الأبرار فزينوا وقربوا وكرموا بخدمتك " .
وسمعته يقول : " لك الحمد يا ذا المن والطول والآلاء والسعة ، إليك توجهنا وبفنائك أنخنا ، ولمعروفك تعرضنا ، وبقربك نزلنا ، يا حبيب التائبين ، ويا سرور [ ص: 336 ] العابدين ، ويا أنيس المتفردين ، ويا حرز اللاجئين ويا ظهر المنقطعين ، ويا من حبب إليه قلوب العارفين وبه آنست أفئدة الصديقين ، وعليه عطفت رهبة الخائفين ، يا من أذاق قلوب العابدين لذيذ الحمد وحلاوة الانقطاع إليه ، يا من يقبل من تاب ويعفو عمن أناب ، ويدعو المولين كرما ، ويرفع المقبلين إليه تفضلا ، يا من يتأنى على الخاطئين ويحلم عن الجاهلين ، ويا من حل عقدة الرغبة من قلوب أوليائه ، ومحا شهوة الدنيا عن فكر قلوب خاصته وأهل محبته ، ومنحهم منازل القرب والولاية ، ويا من لا يضيع مطيعا ولا ينسى صبيا ، يا من منح بالنوال ، ويا من جاد بالاتصال ، يا ذا الذي استدرك بالتوبة ذنوبنا ، وكشف بالرحمة غمومنا ، وصفح عن جرمنا بعد جهلنا ، وأحسن إلينا بعد إساءتنا ، يا آنس وحشتنا ويا طبيب سقمنا ، يا غياث من أسقط بيده ، وتمكن حبل المعاصي ، وأسفر خدر الحيا عن وجهه ، هب خدودنا للتراب بين يديك ، يا خير من قدر وأرأف من رحم وعفا " .
حدثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، ثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان ، قال : سمعت ذا النون ، يقول : " أسألك باسمك الذي ابتدعت به عجائب الخلق في غوامض العلم ، يجود جلال جمال وجهك في عظيم عجيب تركيب أصناف جواهر لغاتها ، فخرت الملائكة سجدا لهيبتك من مخافتك ، أن تجعلنا من الذين سرحت أرواحهم في العلى وحطت همم قلوبهم في مغلبات الهوى ، حتى أناخوا في رياض النعيم ، وجنوا من ثمار التسنيم ، وشربوا بكأس العشق وخاضوا لجج السرور واستظلوا تحت فناء الكرامة ، اللهم اجعلنا من الذين شربوا بكأس الصفا ، فأورثهم الصبر على طول البلاء ، حتى توليت قلوبهم في الملكوت وجالت بين سرائر حجب الجبروت ، ومالت أرواحهم في ظل برد نسيم المشتاقين الذين أناخوا في رياض الراحة ، ومعدن العز وعرصات المخلدين " .
حدثنا أبي ، ثنا سعيد بن أحمد ، ثنا عثمان ، قال : سمعت ذا النون ، يقول : " اعتل رجل من إخواني فكتب إلي أن ادع الله لي فكتبت إليه : سألتني أن أدعو [ ص: 337 ] الله لك أن يزيل عنك النعم ، واعلم يا أخي أن العلة مجزلة يأنس بها أهل الصفا والهمم ، والضياء في الحياة ذكرك للشفاء ، ومن لم يعد البلاء نعمة فليس من الحكماء ، ومن لم يأمن التشفيق على نفسه فقد أمن أهل التهمة على أمره ، فليكن معك يا أخي حياء يمنعك عن الشكوى ، والسلام " . حدثنا أبي ، ثنا أحمد ، ثنا سعيد بن عثمان ، حدثني إبراهيم بن يحيى الزبيدي ، قال : لما حمل ذو النون بن إبراهيم إلى جعفر المتوكل أنزله في بعض الدور وأوصى به زرافة . وقال : أنا إذا رجعت غدا من ركوبي فأخرج إلي هذا الرجل ، فقال له زرافة : إن أمير المؤمنين قد أوصاني بك ، فلما رجع من الغد من الركوب قال له : انظر بأن تستقبل أمير المؤمنين بالسلام ، فلما أخرجه إليه قال له : سلم على أمير المؤمنين ، فقال ذو النون : " ليس هكذا جاءنا الخبر ، إنما جاءنا في الخبر أن الراكب يسلم على الراجل " . قال : فتبسم أمير المؤمنين وبدأه بالسلام ، فنزل إليه أمير المؤمنين ، فقال له : أنت زاهد أهل مصر ؟ قال : " كذا يقولون " .
فقال له زرافة : فإن أمير المؤمنين يحب أن يسمع من كلام الزهاد . قال : فأطرق مليا ثم قال : " يا أمير المؤمنين إن الجهل علق بنكتة أهل الفهم ، يا أمير المؤمنين إن لله عبادا عبدوه بخالص من السر فشرفهم بخالص من شكره ، فهم الذين تمر صحفهم مع الملائكة فرغا حتى إذا صارت إليه ملأها من سر ما أسروا إليه ، أبدانهم دنيوية وقلوبهم سماوية ، قد احتوت قلوبهم من المعرفة كأنهم يعبدونه مع الملائكة بين تلك الفرج وأطباق السماوات ، لم يخبتوا في ربيع الباطل ولم يرتعوا في مصيف الآثام ، ونزهوا الله أن يراهم يثبون على حبائل مكره ، هيبة منهم له وإجلالا أن يراهم يبيعون أخلاقهم بشيء لا يدوم وبلذة من العيش مزهودة ، فأولئك الذين أجلسهم على كراسي أطباق أهل المعرفة بالأدواء والنظر في منابت الدواء ، فجعل تلامذتهم أهل الورع والبصر .
فقال لهم : إن أتاكم عليل من فقدي فداووه أو مريض من تذكري فأدنوه ، أو ناس لنعمتي فذكروه ، أو مبارز لي بالمعاصي فنابذوه ، أو محب لي فواصلوه ، يا أوليائي فلكم عاتبت ولكم خاطبت ومنكم الوفاء طلبت ، لا أحب استخدام [ ص: 338 ] الجبارين ، ولا تولي المتكبرين ، ولا مصافاة المترفين ، يا أوليائي وأحبابي جزائي لكم أفضل الجزاء ، وإعطائي لكم أفضل العطاء ، وبذلي لكم أفضل البذل ، وفضلي عليكم أوفر الفضل ، ومعاملتي لكم أوفى المعاملة ، ومطالبتي لكم أشد مطالبة ، وأنا مقدس القلوب وأنا علام الغيوب ، وأنا عالم بمجال الفكر ، ووسواس الصدور ، من أرادكم قصمته ومن عاداكم أهلكته " .
ثم قال ذو النون : " بحبك وردت قلوبهم على بحر محبته فاغترفت منه ريا من الشراب فشربت منه بمخاطر القلوب ، فسهل عليها كل عارض عرض لها عند لقاء المحبوب ، فواصلت الأعضاء المبادرة ، وألفت الجوارح تلك الراحة ، فهم رهائن أشغال الأعمال ، قد اقتلعتهم الراحة بما كلفوا أخذه عن الانبساط بما لا يضرهم تركه . قد سكنت لهم النفوس ورضوا بالفقر والبؤس واطمأنت جوارحهم على الدءوب على طاعة الله عز وجل بالحركات ، وظعنت أنفسهم عن المطاعم والشهوات ، فتوالهوا بالفكرة ، واعتقدوا بالصبر ، وأخذوا بالرضا ، ولهوا عن الدنيا ، وأقروا بالعبودية للملك الديان ، ورضوا به دون كل رقيب وحميم ، فخشعوا لهيبته ، وأقروا له بالتقصير ، وأذعنوا له بالطاعة ، ولم يبالوا بالقلة إذا خلوا بأقل بكاء ، وإذا عوملوا فإخوان حياء ، وإذا كلموا فحكماء ، وإذا سئلوا فعلماء ، وإذا جهل عليهم فحلماء ، فلو قد رأيتهم لقلت عذارى في الخدور ، وقد تحركت لهم المحبة في الصدور بحسن تلك الصور التي قد علاها النور ، إذا كشفت عن القلوب رأيت قلوبا لينة منكسرة ، وبالذكر نائرة وبمحادثة المحبوب عامرة ، لا يشغلون قلوبهم بغيره ، ولا يميلون إلى ما دونه ، قد ملأت محبة الله صدورهم ، فليس يجدون لكلام المخلوقين شهوة ولا بغير الأنيس ومحادثة الله لذة ، إخوان صدق وأصحاب حياء ووفاء وتقى وورع وإيمان ومعرفة ودين ، قطعوا الأودية بغير مفاوز ، واستقلوا الوفاء بالصبر على لزوم الحق ، واستعانوا بالحق على الباطل فأوضح لهم الحجة ، ودلهم على المحجة فرفضوا طريق المهالك وسلكوا خير المسالك ودلهم ، أولئك هم الأوتاد الذين بهم توهب المواهب ، وبهم تفتح الأبواب ، وبهم ينشأ السحاب ، وبهم يدفع العذاب ، وبهم يستقي العباد والبلاد فرحمة الله علينا وعليهم " .
[ ص: 339 ] سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله الرازي - المذكور بنيسابور - يقول : سمعت يوسف بن الحسين ، يقول : سمعت ذا النون المصري ، يقول : " تنال المعرفة بثلاث : بالنظر في الأمور كيف دبرها ، وفي المقادير كيف قدرها ، وفي الخلائق كيف خلقها ؟ " .
حدثنا محمد بن إبراهيم ، ثنا عبد الحكم بن أحمد بن سلام الصدفي قال : سمعت ذا النون المصري يقول : قرأت في باب مصر بالسريانية فتدبرته فإذا فيه : يقدر المقدرون ، والقضاء يضحك " .
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر - من أصله - ، ثنا أبو بكر الدينوري المفسر - سنة ثمان وثمانين ومائتين - ثنا محمد بن أحمد الشمشاطي قال : سمعت ذا النون المصري يقول : " إن لله عبادا ملأ قلوبهم من صفاء محض محبته وهيج أرواحهم بالشوق إلى رؤيته ، فسبحان من شوق إليه أنفسهم ، وأدنى منه هممهم وصفت له صدورهم ، سبحان موفقهم ومؤنس وحشتهم وطبيب أسقامهم ، إلهي لك تواضعت أبدانهم منك إلى الزيادة ، انبسطت أيديهم ما طيبت به عيشهم ، وأدمت به نعيمهم ، فأذقتهم من حلاوة الفهم عنك ، ففتحت لهم أبواب سماواتك ، وأتحت لهم الجواز في ملكوتك ، بك أنست محبة المحبين ، وعليك معول شوق المشتاقين وإليك حنت قلوب العارفين ، وبك آنست قلوب الصادقين ، وعليك عكفت رهبة الخائفين ، وبك استجارت أفئدة المقصرين ، قد بسطت الراحة من فتورهم ، وقل طمع الغفلة فيهم ، لا يسكنون إلى محادثة الفكرة فيما لا يعنيهم ولا يفترون عن التعب والسهر ، يناجونه بألسنتهم ويتضرعون إليه بمسكنتهم ، يسألونه العفو عن زلاتهم والصفح عما وقع الخطأ به في أعمالهم ، فهم الذين ذابت قلوبهم بفكر الأحزان وخدموه خدمة الأبرار الذين تدفقت قلوبهم ببره ، وعاملوه بخالص من سره حتى خفيت أعمالهم عن الحفظة فوقع بهم ما أملوا من عفوه ووصلوا بها إلى ما أرادوا من محبته ، فهم والله الزهاد والسادة من العباد الذين حملوا أثقال الزمان ، فلم يألموا بحملها ، وقفوا في مواطن الامتحان فلم تزل أقدامهم عن مواضعها حتى مال بهم [ ص: 340 ] الدهر ، وهانت عليهم المصائب ، وذهبوا بالصدق والإخلاص عن الدنيا .
إلهي فيك نالوا ما أملوا ، كنت لهم سيدي مؤيدا ، ولعقولهم مؤديا ، حتى أوصلتهم أنت إلى مقام الصادقين في عملك ، وإلى منازل المخلصين في معرفتك ، فهم إلى ما عند سيدهم متطلعون ، وإلى ما عنده من وعيده ناظرون ، ذهبت الآلام عن أبدانهم لما أذاقهم من حلاوة مناجاته ، ولما أفادهم من ظرائف الفوائد من عنده ، فيا حسنهم والليل قد أقبل بحنادس ظلمته ، وهدأت عنهم أصوات خليقته ، وقدموا إلى سيدهم الذين له يأملون ، فلو رأيت أيها البطال أحدهم وقد قام إلى صلاته وقراءته ، فلما وقف في محرابه واستفتح كلام سيده خطر على قلبه أن ذلك المقام هو المقام الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين فانخلع قلبه وذهل عقله ، فقلوبهم في ملكوت السماوات معلقة ، وأبدانهم بين أيدي الخلائق عارية وهمومهم بالفكر دائمة ، فما ظنك بأقوام أخيار أبرار ، وقد خرجوا من رق الغفلة واستراحوا من وثائق الفترة وأنسوا بيقين المعرفة ، وسكنوا إلى روح الجهاد والمراقبة ، بلغنا الله وإياكم هذه الدرجة " .
حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا أبو بكر الدينوري ، ح وحدثنا محمد بن إسحاق الشمشاطي ، قال : سمعت ذا النون يقول : بينا أنا أسير في جبالأنطاكية وإذا أنا بجارية كأنها مجنونة وعليها جبة من صوف فسلمت عليها ، فردت السلام ، ثم قالت : ألست ذا النون المصري ، قلت : عافاك الله كيف عرفتيني ؟ قالت : فتق الحبيب بيني وبين قلبك فعرفتك باتصال معرفة حب الحبيب ، ثم قالت : أسألك مسألة ؟ قلت : سليني قالت أي شيء السخاء ؟ قلت : البذل والعطاء قالت : هذا السخاء في الدنيا فما السخاء في الدين ؟ قلت : المسارعة إلى طاعة المولى ، قالت : فإذا سارعت إلى طاعة المولى تحب منه خيرا ؟ قلت : نعم للواحد عشرة ، قالت : مر بإبطال هذا ، هذا في الدين قبيح ، ولكن المسارعة إلى طاعة المولى أن يطلع إلى قلبك وأنت لا تريد منه شيئا بشيء ، ويحك يا ذا النون إني أريد أن أقسم عليه في طلب شهوة منذ عشرين سنة فأستحيي منه مخافة أن أكون كأجير السوء إذا عمل طلب الأجر ، ولكن أعمل تعظيما لهيبته وعز جلاله ، قال : ثم مرت وتركتني .
[ ص: 341 ] حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، وأحمد بن محمد بن أبان ، قالا : ثنا سعيد بن عثمان ، حدثني ذو النون ، قال : بينا أنا في بعض مسيري إذ لقيتني امرأة فقالت لي : من أين أنت ؟ قلت : رجل غريب ، فقالت لي : ويحك وهل يوجد مع الله أحزان الغربة ؟ وهو مؤنس الغرباء ، ومعين الضعفاء ؟ قال : فبكيت ، فقالت لي : ما يبكيك ؟ قلت : وقع الدواء على داء قد قرح فأسرع لي نجاحه ، قالت : فإن كنت صادقا فلم بكيت ؟ قلت : والصادق لا يبكي ؟ قالت : لا ، قلت : ولم ؟ قالت : لأن البكاء راحة للقلب ، وملجأ يلجأ إليه ، وما كتم القلب شيئا أحق من الشهيق والزفير ، فإذا أسبلت الدمعة استراح القلب ، وهذا ضعف الأطباء بإبطال الداء ، قال : فبقيت متعجبا من كلامها ، فقالت لي : ما لك ؟ قلت : تعجبت من هذا الكلام ، قالت : وقد نسيت القرحة التي سألت عنها ؟ قلت : لا ، ما أنا بالمستغني عن طلب الزوائد ، قالت : صدقت ، حب ربك سبحانه ، واشتق إليه فإن له يوما يتجلى فيه على كرسي كرامته لأوليائه وأحبائه فيذيقهم من محبته كأسا لا يظمئون بعده أبدا ، قال : ثم أخذت في البكاء والزفير والشهيق ، وهي تقول : سيدي إلى كم تخلفني في دار لا أجد فيها أحدا يسعفني على البكاء أيام حياتي - ثم تركتني ومضت .
حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، ثنا سعيد بن عثمان ، قال : سمعت ذا النون يقول : كم من مطيع مستأنس ، وكم عاص مستوحش ، وكم من محب ذليل ، وكل راج طالب قال : وسمعته يقول : اعلموا أن العاقل يعترف بذنبه ، ويحس بذنب غيره ، ويجود بما لديه ويزهد فيما عند غيره ، ويكف أذاه ويحتمل الأذى عن غيره والكريم يعطي قبل السؤال ، فكيف يبخل بعد السؤال ؟ ويعذر قبل الاعتذار ، فكيف يحقد بعد الاعتذار ؟ ويعف قبل الامتناع فكيف يطمع في الازدياد ، قال : وسمعته يقول : ثلاثة من أعلام المحبة : الرضا في المكروه ، وحسن الظن في المجهول ، والتحسين في الاختيار في المحذور ، وثلاثة من أعلام الصواب : الأنس به في جميع الأحوال ، والسكون إليه في جميع الأعمال ، وحب الموت بغلبة الشوق في جميع الأشغال ، وثلاثة من أعمال اليقين : النظر إلى الله تعالى [ ص: 342 ] في كل شيء ، والرجوع إليه في كل أمر ، والاستعانة به في كل حال ، وثلاثة من أعمال الثقة بالله : السخاء بالموجود ، وترك الطلب للمفقود ، والاستنابة إلى فضل الموجود ، وثلاثة منأعمال الشكر : المقاربة من الإخوان في النعمة ، واستغنام قضاء الحوائج قبل العطية ، واستقلال الشكر لملاحظة المنة ، وثلاثة من أعلام الرضى: ترك الاختيار قبل القضا ، وفقدان المرارة بعد القضا ، وهيجان الحب في حشو البلا ، وثلاثة من أعمال الأنس بالله : استلذاذ الخلوة ، والاستيحاش من الصحبة ، واستحلاء الوحدة ، وثلاثة من أعلام حسن الظن بالله : قوة القلب ، وفسحة الرجا في الزلة ، ونفي الإياس بحسن الإنابة ، وثلاثة من أعلام الشوق : حب الموت مع الراحة وبغض الحياة مع الدعة ، ودوام الحزن مع الكفاية " . حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الأصبهاني ، ثنا أحمد بن محمد بن حمدان النيسابوري ، ثنا عبد القدوس بن عبد الرحمن الشاشي ، قال : سمعت ذا النون المصري يقول : " إلهي ما أصغي إلى صوت حيوان ولا حفيف شجر ، ولا خرير ماء ، ولا ترنم طائر ، ولا تنعم ظل ، ولا دوي ريح ، ولا قعقعة رعد إلا وجدتها شاهدة بوحدانيتك دالة على أنه ليس كمثلك شيء ، وأنك غالب لا تغلب وعالم لا تجهل ، وحليم لا تسفه ، وعدل لا تجور ، وصادق لا تكذب ، إلهي فإني أعترف لك اللهم بما دل عليه صنعك ، وشهد لك فعلك ، فهب لي اللهم طلب رضاك برضاي ومسرة الوالد لولده يذكرك لمحبتي لك ، ووقار الطمأنينة وتطلب العزيمة إليك ; لأن من لم يشبعه الولوع باسمك ولم يروه من ظمائه ورود غدران ذكرك ، ولم ينسه جميع الهموم رضاه عنك ، ولم يلهه عن جميع الملاهي تعداد آلائك ، ولم يقطعه عن الأنس بغيرك مكانه منك كانت حياته ميتة ، وميتته حسرة ، وسروره غصة وأنسه وحشة ، إلهي عرفني عيوب نفسي وافضحها عندي لأتضرع إليك في التوفيق للتنزه عنها ، وأبتهل إليك بين يديك خاضعا ذليلا في أن تغسلني منها ، واجعلني من عبادك الذين شهدت أبدانهم وغابت قلوبهم [ ص: 343 ] تجول في ملكوتك وتتفكر في عجائب صنعك ، ترجع بفوائد معرفتك وعوائد إحسانك ، قد ألبستهم خلع محبتك وخلعت عنهم لباس التزين لغيرك ، إلهي لا تترك بيني وبين أقصى مرادك حجابا إلا هتكته ، ولا حاجزا إلا رفعته ، ولا وعرا إلا سهلته ، ولا بابا إلا فتحته ، حتى تقيم قلبي بين ضياء معرفتك ، وتذيقني طعم محبتك ، وتبرد بالرضى منك فؤادي وجميع أحوالي حتى لا أختار غير ما تختاره ، وتجعل لي مقاما بين مقامات أهل ولايتك ، ومضطربا فسيحا في ميدان طاعتك ، إلهي كيف أسترزق من لا يرزقني إلا من فضلك ؟ أم كيف أسخطك في رضى من لا يقدر على ضري إلا بتمكينك ؟ فيا من أسأله إيناسا به وإيحاشا من خلقه ، ويا من إليه التجائي في شدتي ورجائي ، ارحم غربتي وهب لي من المعرفة ما أزداد به يقينا ، ولا تكلني إلى نفسي الأمارة بالسوء طرفة عين " .
حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، ثنا سعيد بن عثمان الخليط ، عن أبي الفيض ذي النون المصري ، قال : إن لله لصفوة من خلقه ، وإن لله لخيرة من خلقه ، قيل له : يا أبا الفيض فما علامتهم ؟ قال : إذا خلع العبد الراحة وأعطى المجهود في الطاعة وأحب سقوط المنزلة ، قيل له : يا أبا الفيض فما علامة إقبال الله عز وجل على العبد ؟ قال : إذا رأيته صابرا شاكرا ذاكرا فذلك علامة إقبال الله على العبد ، قيل : فما علامة إعراض الله عن العبد ؟ قال : إذا رأيته ساهيا راهبا معرضا عن ذكر الله ، فذاك حين يعرض الله عنه ، ثم قال : ويحك كفى بالمعرض عن الله وهو يعلم أن الله مقبل عليه وهو معرض عن ذكره ، قيل له : يا أبا الفيض فما علامة الأنس بالله ؟ قال : إذا رأيته يؤنسك بخلقه فإنه يوحشك من نفسه ، وإذا رأيته يوحشك من خلقه فإنه يؤنسك بنفسه ، ثم قال أبو الفيض : الدنيا والخلق لله عبيد ، خلقهم للطاعة وضمن لهم أرزاقهم ونهاهم وحذرهم وأنذرهم ، فحرصوا على ما نهاهم الله عنه ، وطلبوا الأرزاق وقد ضمنها الله لهم ، فلا هم في أرزاقهم استزادوا ، ثم قال : عجبا لقلوبكم كيف لا تتصدع ! ولأجسامكم كيف لا تتضعضع ، إذا كنتم تسمعون ما أقول لكم وتعقلون " .
حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا أبو بكر الدينوري ، ثنا محمد بن أحمد [ ص: 344 ] الشمشاطي ، قال : سمعت ذا النون المصري ، يقول : " بينا أنا سائر على شاطئ نيل مصر إذ أنا بجارية تدعو وهي تقول في دعائها : يا من هو عند ألسن الناطقين ، يا من هو عند قلوب الذاكرين ، يا من هو عند فكرة الحامدين ، يا من هو على نفوس الجبارين والمتكبرين ، قد علمت ما كان مني ، يا أمل المؤملين ، قال : ثم صرخت صرخة خرت مغشيا عليها ، قال : وسمعت ذا النون يقول : دخلت على سواد نيل مصر فجاءني الليل فقمت بين زروعها ، فإذا أنا بامرأة سوداء قد أقبلت إلى سنبلة ففركتها ، ثم امتنعت عليها فتركتها وبكت ، وهي تقول : يا من بذره حبا يابسا في أرضه ولم يك شيئا ، أنت الذي صيرته حشيشا ، ثم أنبته عودا قائما بتكوينك ، وجعلت فيه حبا متراكبا ، ودورته فكونته وأنت على كل شيء قدير .
وقالت : عجبت لمن هذه مشيئته كيف لا يطاع ، وعجبت لمن هذا صنعه كيف يشتكى ، فدنوت منها فقلت : من يشكو أمل المؤملين ، فقالت لي : أنت يا ذا النون ، إذا اعتللت فلا تجعل علتك إلى مخلوق مثلك ، واطلب دواءك ممن ابتلاك وعليك السلام ، لا حاجة لي في مناظرة البطالين ، ثم أنشأت تقول :
وكيف تنام العين وهي قريرة ولم تدر في أي المحلين تنزل
حدثنا محمد بن أحمد بن الصباح ، ثنا أبو بكر محمد بن خلف المؤدب - وكان من خيار عباد الله - قال : رأيت ذا النون المصري على ساحل البحر عند صخرة موسى ، فلما جن الليل خرج فنظر إلى السماء والماء ، فقال : سبحان الله ، ما أعظم شأنكما ، بل شأن خالقكما أعظم منكما ومن شأنكما ، فلما تهور الليل لم يزل ينشد هذين البيتين إلى أن طلع عمود الصبح :
اطلبوا لأنسكم مثل ما وجدت أنا
قد وجدت لي سكنا ليس هو في هواه عنا
إن بعدت قربني أو قربت منه دنا
. قد وجدت لي سكنا ليس هو في هواه عنا
إن بعدت قربني أو قربت منه دنا
أنشدنا عثمان بن محمد العثماني قال : أنشدني العباس بن أحمد لذي النون المصري :
إذا ارتحل الكرام إليك يوما ليلتمسوك حالا بعد حال
[ ص: 345 ] فإن رحالنا حطت لترضى بحلمك عن حلول وارتحال
أنخنا في فنائك يا إلهي إليك معرضين بلا اعتلال
فسسنا كيف شئت ولا تكلنا إلى تدبيرنا يا ذا المعالي
[ ص: 345 ] فإن رحالنا حطت لترضى بحلمك عن حلول وارتحال
أنخنا في فنائك يا إلهي إليك معرضين بلا اعتلال
فسسنا كيف شئت ولا تكلنا إلى تدبيرنا يا ذا المعالي
حدثنا أبو بكر محمد بن محمد بن عبيد الله ، ثنا أبو العباس أحمد بن عيسى الوشاء ، ثنا أبو عثمان سعيد بن الحكم - تلميذ ذي النون - قال : سئلذو النون : ما سبب الذنب ؟ قال : اعقل ويحك ما تقول ، فإنها من مسائل الصديقين ، سبب الذنب النظرة ، ومن النظرة الخطرة ، فإن تداركت الخطرة بالرجوع إلى الله ذهبت ، وإن لم تذكرها امتزجت بالوساوس فتتولد منها الشهوة وكل ذلك بعد باطن لم يظهر على الجوارح ، فإن تذكرت الشهوة ، وإلا تولد منها الطلب ، فإن تداركت الطلب وإلا تولد منه العقل .
حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد ، ثنا أحمد بن عيسى الوشاء ، قال : سمعت أبا عثمان سعيد بن الحكم يقول : سمعت أبا الفيض ذا النون بن إبراهيم يقول : بينما أنا أسير ذات ليلة ظلماء في جبال بيت المقدس إذ سمعت صوتا حزينا وبكاء جهيرا ، وهو يقول : يا وحشتاه بعد أنسنا يا غربتاه عن وطننا وافقراه بعد غنانا ، واذلاه بعد عزنا ، فتبعت الصوت حتى قربت منه ، فلم أزل أبكي لبكائه حتى إذا أصبحنا نظرت إليه فإذا رجل ناحل كالشن المحترق ، فقلت : يرحمك الله تقول مثل هذا الكلام ، فقال : دعني فقد كان لي قلب فقدته ، ثم أنشأ يقول :
قد كان لي قلب أعيش به بين الهوى فرماه الحب فاحترقا
فقلت له :
لم تشتكي ألم البلا وأنت تنتحل المحبه
إن المحب هو الصبور على البلاء لمن أحبه
حب الإله هو السرور مع الشفاء لكل كربه
إن المحب هو الصبور على البلاء لمن أحبه
حب الإله هو السرور مع الشفاء لكل كربه
حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن مقسم ، قال : سمعت أبا محمد الحسن بن علي بن خلف ، يقول : سمعت إسرافيل يقول : سمعت ذا النون يقول : إن سكت [ ص: 346 ] علم ما تريد ، وإن نطقت لم تنل بنطقك ما لا يريد ، وعلمه بمرادك ينبغي أن يغنيك عن مسألته أو ينجيك عن مطالبته ".
حدثنا أحمد بن محمد ، قال : سمعت أبا محمد يقول : سمعت إسرافيل يقول : سمعت ذا النون يقول : سمعت بعض المتعبدين بساحل بحر الشام ، يقول : إن لله عبادا عرفوه بيقين من معرفته فشمروا قصدا إليه ، احتملوا فيه المصائب لما يرجون عنده من الرغائب ، صحبوا الدنيا بالأشجان ، وتنعموا فيها بطول الأحزان فما نظروا إليها بعين راغب ، ولا تزودوا منها إلا كزاد الراكب ، خافوا البيات فأسرعوا ، ورجوا النجاة فأزمعوا ، بذكره لهجت ألسنتهم في رضى سيدهم ، نصبوا الآخرة نصب أعينهم ، وأصغوا إليها بآذان قلوبهم ، فلو رأيتهم رأيت قوما ذبلا شفاههم ، خمصا بطونهم ، حزينة قلوبهم ، ناحلة أجسامهم ، باكية أعينهم ، لم يصحبوا العلل والتسويف ، وقنعوا من الدنيا بقوت طفيف ، لبسوا من اللباس أطمارا بالية ، وسكنوا من البلاد قفارا خالية ، هربوا من الأوطان واستبدلوا الوحدة من الإخوان ، فلو رأيتهم لرأيت قوما قد ذبحهم الليل بسكاكين السهر ، وفصل الأعضاء منهم بخناجر التعب ، خمص لطول السرى ، شعث لفقد الكرا ، قد وصلوا الكلال بالكلال للنقلة والارتحال .
أخبرنا أحمد قال : سمعت أبا محمد يقول : سمعت إسرافيل يقول : حضرت ذا النون في الحبس وقد دخل الجلواذ بطعام له ، فقام ذو النون فنفض يده فقيل له : إن أخاك جاء به ، فقال : إنه مر على يدي ظالم ، قال : وسمعت رجلا سأل ذا النون فقال : رحمك الله ! ما الذي أنصب العباد وأضناهم ؟ فقال : ذكر المقام ، وقلة الزاد ، وخوف الحساب ، ثم سمعته يقول بعد فراغه من كلامه : ولم لا تذوب أبدان العمال وتذهل عقولهم ، والعرض على الله أمامهم ، وقراءة كتبهم بين أيديهم ، والملائكة وقوف بين يدي الجبار ينتظرون أمره في الأخيار والأشرار ، ثم قال : مثلوا هذا في نفوسهم وجعلوه نصب أعينهم ، قال : وسمعت [ ص: 347 ] ذا النون ، يقول : قال الحسن : ما أخاف عليكم منع الإجابة إنما أخاف عليكم منع الدعاء " .
حدثنا أحمد بن محمد بن مقسم ، ثنا أحمد بن محمد بن سهل الصيرفي ، ثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان قال : سمعت ذا النون يقول : " إن الطبيعة النقية هي التي يكفيها من العظمة رائحتها ، ومن الحكمة إشارة إليها " .
حدثنا أحمد بن محمد ، ثنا الحسن بن علي بن خلف قال : سمعت إسرافيل يقول : أنشدنا ذو النون بن إبراهيم المصري فقال :
توجع بأمراض وخوف مطالب وإشفاق محزون وحزن كئيب
ولوعة مشتاق وزفرة واله وسقطة مسقام بغير طبيب
وفطنة جوال وبطأة غائص ليأخذ من طيب الصفا بنصيب
ألمت بقلب حيرته طوارق من الشوق حتى ذل ذل غريب
يكاتم لي وجدا ويخفي حمية ثوت فاستكنت في قرار لبيب
خلا فهمه عن فهمه لحضوره فمن فهمه فهم عليه رقيب
يقول إذا ما شفه الشوق وأجدى بك العيش يا أنس المحب يطيب
فهذا لعمري عبد صدق مهذب صفى فاصطفى فالرب منه قريب
ولوعة مشتاق وزفرة واله وسقطة مسقام بغير طبيب
وفطنة جوال وبطأة غائص ليأخذ من طيب الصفا بنصيب
ألمت بقلب حيرته طوارق من الشوق حتى ذل ذل غريب
يكاتم لي وجدا ويخفي حمية ثوت فاستكنت في قرار لبيب
خلا فهمه عن فهمه لحضوره فمن فهمه فهم عليه رقيب
يقول إذا ما شفه الشوق وأجدى بك العيش يا أنس المحب يطيب
فهذا لعمري عبد صدق مهذب صفى فاصطفى فالرب منه قريب
حدثنا أحمد قال : سمعت أبا محمد يقول : سمعت إسرافيل يقول : سمعت ذا النون يقول : كتب رجل إلى عالم : ما الذي أكسبك علمك من ربك ، وما أفادك في نفسك ؟ فكتب إليه العالم : أثبت العلم الحجة ، وقطع عمود الشك والشبهة ، وشغلت أيام عمري بطلبه ، ولم أدرك منه ما فاتني ، فكتب إليه الرجل : العلم نور لصاحبه ، ودليل على حظه ، ووسيلة إلى درجات السعداء ، فكتب إليه العالم : أبليت إليه في طلبه جدة الشباب ، وأدركني حين علمت الضعف عن العمل به ، ولو اقتصرت منه على القليل كان لي فيه مرشد إلى السبيل .
حدثنا أحمد قال : سمعت أبا محمد يقول : سمعت إسرافيل يقول : سأل رجل ذا النون المصري عن سؤال ، فقال له ذو النون : " قلبي لك مقفل ، فإن فتح لك [ ص: 348 ] أجبتك ، وإن لم يفتح لك فاعذرني واتهم نفسك " . حدثنا عثمان بن محمد بن عثمان ، ثنا محمد بن أحمد الواعظ ، ثنا العباس بن يوسف الشكلي ، ثنا سعيد بن عثمان ، قال : كنت مع ذي النون في تيه بني إسرائيل فبينا نحن نسير إذا بشخص قد أقبل فقلت : أستاذ شخص ، فقال لي : انظر فإنه لا يضع قدمه في هذا المكان إلا صديق ، فنظرت فإذا امرأة ، فقلت : إنها امرأة فقال : صديقة ورب الكعبة ، فابتدر إليها وسلم عليها فردت السلام ، ثم قالت : ما للرجل ومخاطبة النساء ؟ فقال لها : إني أخوك ذو النون ولست من أهل التهم ، فقالت : مرحبا حياك الله بالسلام ، فقال لها : ما حملك على الدخول إلى هذا الموضع ؟ فقالت : آية في كتاب الله تعالى : ( ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ) فكلما دخلت إلى موضع يعصى فيه لم يهنني القرار فيه بقلب قد أبهلته شدة محبته ، وهام بالشوق إلى رؤيته ، فقال لها : صفي لي ، فقالت : يا سبحان الله ! أنت عارف تكلم بلسان المعرفة تسألني ؟ فقال : يحق للسائل الجواب ، فقالت : نعم ، المحبة عندي لها أول وآخر ، فأولها لهج القلب بذكر المحبوب ، والحزن الدائم ، والتشوق اللازم ، فإذا صاروا إلى أعلاها شغلهم وجدان الخلوات عن كثير من أعمال الطاعات ، ثم أخذت في الزفير والشهيق ، وأنشأت تقول :
أحبك حبين حب الهوى وحبا لأنك أهل لذاكا فأما الذي هو حب الهوى
فذكر شغلت به عن سواكا وأما الذي أنت أهل له
فكشفك للحجب حتى أراكا فما الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
فذكر شغلت به عن سواكا وأما الذي أنت أهل له
فكشفك للحجب حتى أراكا فما الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
ثم شهقت شهقة ، فإذا هي قد فارقت الدنيا .
حدثنا عثمان بن محمد بن أحمد ، ثنا العباس بن يوسف قال : سمعت سعيد بن عثمان يقول : سمعت ذا النون يقول : وصف لي رجل بشاهرتفقصدته ، فأقمت على بابه أربعين يوما ، فلما كان بعد ذلك رأيته ، فلما رآني هرب مني ، فقلت له : سألتك بمعبودك إلا وقفت علي وقفة ، فقلت : سألتك بالله بم عرفت [ ص: 349 ] الله ، وبأي شيء تعرف إليك الله حتى عرفته ؟ فقال لي : نعم ، رأيت لي حبيبا إذا قربت منه قربني وأدناني ، وإذا بعدت صوت بي وناداني ، وإذا قمت بالفترة رغبني ومناني ، وإذا عملت بالطاعة زادني وأعطاني ، وإذا عملت بالمعصية صبر علي وتأناني ، فهل رأيت حبيبا مثل هذا ؟ انصرف عني ولا تشغلني ثم ولى ، وهو يقول :
حسب المحبين في الدنيا بأن لهم من ربهم سببا يدني إلى سبب
قوم جسومهم في الأرض سارية نعم وأرواحهم تختال في الحجب
لهفي على خلوة منه تسددني إذا تضرعت بالإشفاق والرغب
يا رب يا رب أنت الله معتمدي متى أراك جهارا غير محتجب
قوم جسومهم في الأرض سارية نعم وأرواحهم تختال في الحجب
لهفي على خلوة منه تسددني إذا تضرعت بالإشفاق والرغب
يا رب يا رب أنت الله معتمدي متى أراك جهارا غير محتجب
حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، ثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان قال : سمعت ذا النون يقول : مدح الله تعالى الشوق لنوره السماوات ، وأنى لوجهه الظلمات ، وحجبه بجلالته عن العيون ، ووصل بها معارف العقول ، وأنفذ إليه أبصار القلوب ، وناجاه على عرشه ألسنة الصدور ؟إلهي لك تسبح كل شجرة ، ولك تقدس كل مدرة بأصوات خفية ونغمات زكية ، إلهي قد وقفت بين يديك قدمي ، ورفعت إليك بصري ، وبسطت إلى مواهبك يدي ، وصرخ إليك صوتي ، وأنت الذي لا يضجره الندا ولا تخيب من دعاك ، إلهي هب لي بصرا يرفعه إليك صدقه ، فإن من تعرف إليك غير مجهول ، ومن يلوز بك غير مخذول ، ومن يبتهج بك مسرور ومن يعتصم بك منصور .
قال الشيخ أبو نعيم رحمه الله تعالى : حدثنا أبي ، ثنا أحمد ، ثنا سعيد قال : سمعت ذا النون يقول : إن لله خالصة من عباده ، ونجباء من خلقه ، وصفوة من بريته صحبوا الدنيا بأبدان ، أرواحها في الملكوت معلقة ، أولئك نجباء الله من عباده ، وأمناء الله في بلاده ، والدعاة إلى معرفته ، والوسيلة إلى دينه ، هيهات بعدوا وفاتوا ، ووارتهم بطون الأرض وفجاجها على أنه لا تخلو الأرض من قائم فيها بحجته على خلقه لئلا تبطل حجج الله ، ثم قال : وأين ؟ أولئك قوم حجبهم الله من عيون خلقه ، وأخفاهم عن آفات الدنيا وفتنها ، ألا وهم [ ص: 350 ] الذين قطعوا أودية الشكوك باليقين ، واستعانوا على أعمال الفرائض بالعلم ، واستدلوا على فساد أعمالهم بالمعرفة ، وهربوا من وحشة الغفلة وتسربلوا بالعلم لاتقاء الجهالة ، واحتجزوا عن الغفلة بخوف الوعيد ، وجدوا في صدق الأعمال لإدراك الفوت ، وخلوا عن مطامع الكذب ومعانقة الهوى ، وقطعوا عرى الارتياب بروح اليقين ، وجاوزوا ظلم الدجى ، ودحضوا حجج المبتدعين باتباع السنن ، وبادروا إلى الانتقال عن المكروه قبل فوت الإمكان ، وسارعوا في الإحسان تعريضا للقعود عن الإساءة ، ولاقوا النعم بالشكر استجلالا لمزيده ، وجعلوه نصب أعينهم عند خواطر الهمم وحركات الجوارح من زينة الدنيا وغرورها ، فزهدوا فيها عيانا ، وأكلوا منها قصدا وقدموا فضلا ، وأحرزوا ذخرا ، وتزودوا منها التقوى ، وشمروا في طلب النعيم بالسير الحثيث والأعمال الزكية ، وهم يظنون بل لا يشكون أنهم مقصرون ، وذلك أنهم عقلوا فعرفوا ، ثم اتقوا وتفكروا ، فاعتبروا حتى أبصروا ، فلما أبصروا استولت عليهم طرقات أحزان الآخرة ، فقطع بهم الحزن حركات ألسنتهم عن الكلام من غير عي خوفا من التزين فيسقطوا من عين الله ، فأمسكوا وأصبحوا في الدنيا مغمومين وأمسوا فيها مكروبين ، مع عقول صحيحة ، ويقين ثابت ، وقلوب شاكرة ، وألسن ذاكرة وأبدان صابرة وجوارح مطيعة ، أهل صدق ونصح وسلامة وصبر وتوكل ورضى وإيمان ، عقلوا عن الله أمره فشغلوا الجوارح فيما أمروا به ، وذكر وحياء ، وقطعوا الدنيا بالصبر على لزوم الحق وهجروا الهوى بدلالات العقول وتمسكوا بحكم التنزيل وشرائع السنن ، ولهم في كل ثارة منها دمعة ولذة وفكرة وعبرة ، ولهم مقام على المزيد للزيادة ، فرحمة الله علينا وعليهم وعلى جميع المؤمنين والصالحين " .
قال : وسمعت ذا النون يقول : إياك أن تكون في المعرفة مدعيا وتكون بالزهد محترفا وتكون بالعبادة متعلقا ، فقيل له : يرحمك الله ! فسر لنا ذلك فقال : أما علمت أنك إذا أشرت في المعرفة إلى نفسك بأشياء وأنت معرى من حقائقها كنت مدعيا ؟ وإذا كنت في الزهد موصوفا بحالة وبك دون الأحوال كنت محترفا ، وإذا علقت بالعبادة قلبك وظننت أنك تنجو من الله بالعبادة لا بالله كنت بالعبادة متعلقا لا بوليها والمنان عليك ؟ " قال : وسمعت [ ص: 351 ] ذا النون يقول : " معاشرة العارف كمعاشرة الله يحتمل عنك ويحلم عنك تخلقا بأخلاق الله الجميلة " ، قال : وسمعت ذا النون يقول : " أهل الذمة يحملون على الحال المحمودة والمباح من الفعل ، فما الفرق بين الذمي والحنيفي ، الحنيفي أولى بالحلم والصفح والاحتمال " .
حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم ، ثنا أبو حامد أحمد بن محمد النيسابوري ، ثنا عبد القدوس بن عبد الرحمن قال : قيل لأبي الفيض ذي النون : كيف أصبحت ؟ قال : أصبحت تعبا إن نفعني تعبي والموت يجد في طلبي ، وقيل له : كيف أصبحت ؟ فقال : أصبحت مقيما على ذنب ونعمة ، فلا أدري من الذنب أستغفر أم على النعمة أشكر ، وقيل له : كيف أصبحت ؟ قال : أصبحت بطالا عن العبادة متلوثا بالمعاصي ، أتمنى منازل الأبرار وأعمل عمل الأشرار .
وسمعت ذا النون يقول : " إلهي لو أصبت موئلا في الشدائد غيرك أو ملجأ في المنازل سواك لحق لي أن لا أعرض إليه بوجهي عنك ، ولا أختاره عليك ، لقديم إحسانك إلي وحديثه ، وظاهر منتك علي وباطنها ، ولو تقطعت في البلاد إربا إربا ، وانصبت علي الشدائد صبا صبا ، ولا أجد مشتكى غيرك ، ولا مفرجا لما بي عن سواك ، فيا وارث الأرض ومن عليها ، ويا باعث جميع من فيها ، ورث أملي فيك مني أملي ، وبلغ همي فيك منتهى وسائلي " .
حدثنا عثمان بن محمد العثماني ، ثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عيسى الرازي ، ثنا محمد بن أحمد بن سلمة النيسابوري قال : سمعت ذا النونيقول : يا خراساني احذر أن تنقطع عنه فتكون مخدوعا ، قلت : وكيف ذلك ؟ قال : لأن المخدوع من ينظر إلى عطاياه فينقطع عن النظر إليه بالنظر إلى عطاياه ، ثم قال : تعلق الناس بالأسباب وتعلق الصديقون بولي الأسباب ، ثم قال : علامة تعلق قلوبهم بالعطايا طلبهم منه العطايا ، ومن علامة تعلق قلب الصديق بولي العطايا انصباب العطايا عليه وشغله عنها به ، ثم قال : ليكن اعتمادك على الله في الحال لا على الحال مع الله ، ثم قال : اعقل فإن هذا من صفوة التوحيد " .
حدثنا عثمان بن محمد ، ثنا الحسن بن أبي الحسن ، ثنا محمد بن يحيى بن آدم ، [ ص: 352 ] ثنا أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الخواص قال :سمعت ذا النون يقول : من أدرك طريق الآخرة فليكثر مساءلة الحكماء ومشاورتهم ، ولكن أول شيء يسأل عنه العقل ; لأن جميع الأشياء لا تدرك إلا بالعقل ، ومتى أردت الخدمة لله فاعقل لم تخدم ثم اخدم " .
حدثنا عثمان بن أحمد ، ثنا أحمد بن محمد بن عيسى ، قال : سمعت يوسف بن الحسن يقول : أتى رجل من أهل البصرة ذا النون فسأله : متى تصح لي عزلة الخلق ؟ قال : إذا قويت على عزلة نفسك . قال : فمتى يصح طلبي للزهد قال : إذا كنت زاهدا في نفسك ، هاربا من جميع ما يشغلك عن الله ; لأن جميع ما شغلك عن الله هي دنيا . قال يوسف : فذكرت ذلك لطاهر القدسي فقال : هذا نزل أخبار المرسلين .
حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، ثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان ، قال : سمعت ذا النون المصري - وسئل : أي الحجاب أخفى الذي يحتجب به المريد عن الله ؟ فقال : ويحك : ملاحظة النفس وتدبيرها ، وقال ذو النون : وقال بعضهم : علم القوم بأن الله يراهم على حال فاحترزوا به عمن سواه ، فقال له غيره من أصحابه من الزهاد - وكان حاضرا بمجلسه يقال له طاهر - يا أبا الفيض رحمك الله ! بل نظروا بعين اليقين إلى محبوب القلوب فرأوه في كل حالة موجودا ، وفي كل لمحة ولحظة قريبا بكل رطب ويابس عليما ، وعلى كل ظاهر وباطن شهيدا ، وعلى مكروه ومحبوب قائما ، وعلى تقريب البعيد وتبعيد القريب مقتدرا ، ولهم في كل الأحوال والأعمال سائسا ، ولما يريدهم به موفقا ، فاستغنوا بسياسته وتدبيره وتقويته عن تدبير أنفسهم ، وخاضوا البحار وقطعوا القفار بروح النظر إلى نظره البهيج ، وخرقوا الظلمات بنور مشاهدته ، وتجرعوا المرارات بحلاوة وجوده ، وكابدوا الشدائد واحتملوا الأذى في جنب قربه وإقباله عليهم ، وخاطروا بالنفوس فيما يعلمون ويحملون ثقة منهم باجتيازه ، ورضوا بما يضعهم فيه من الأحوال محبة منهم لإرادته وموافقة لرضاه ، ساخطين على أنفسهم معرفة منهم بحقه ، واستعدادا للعقوبة [ ص: 353 ] بعدله عليهم ، فأداهم ذلك إلى الابتلاء منه فلم تسع عقولهم ومفاصلهم وقلوبهم محبة لغيره ، ولم تبق زنة خردلة منهم خالية منه ولا باقيا فيهم سواه ، فهم له بكليتهم ، وهو لهم حظ في الدنيا والآخرة ، وقد رضي عنهم ورضوا عنه ، وأحبهم فأحبوه ، وكانوا له وكان لهم ، وآثروه وآثرهم ، وذكروه فذكرهم ( أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ) فصاح عند ذلك ذو النون ، وقال : أين هؤلاء ؟ وكيف الطريق إليهم وكيف المسلك ؟ فصاح به : يا أبا الفيض الطريق مستقيم ، والحجة واضحة ، فقال له : صدقت والله يا أخي ، فالهرب إليه ولا تعرج إلى غيره .
حدثنا أبي ، ثنا أحمد ، ثنا سعيد بن عثمان قال : سمعت ذا النون يقول : ويحك من ذكر الله على حقيقة نسي في حبه كل شيء ، ومن نسي في حبه كل شيء حفظ الله عليه كل شيء وكان له عوضا في كل شيء ، قال : وسمعت ذا النون وأتاه رجل فقال : يا أبا الفيض دلني على طريق الصدق والمعرفة ، فقال : يا أخي أد إلى الله صدق حالتك التي أنت عليها على موافقة الكتاب والسنة ، ولا ترق حيث لم ترق فتزل قدمك فإنه إذا زل بك لم تسقط ، وإذا ارتقيت أنت تسقط ، وإياك أن تترك ما تراه يقينا لما ترجوه شكا ، قال : وسمعت ذا النون يقول وسئل : متى يجوز للرجل أن يقول : أراني الله كذا وكذا ؟ فقال : إذا لم يطق ذلك ، ثم قال ذو النون : أكثر الناس إشارة إلى الله في الظاهر أبعدهم من الله ، وأرغب الناس في الدنيا وأخفاهم لها طلبا أكثرهم لها ذما عند طلابها ، قال : وسمعته يقول : كلت ألسنة المحققين لك عن الدعاوى ، ونطقت ألسنة المدعين لك بالدعاوى ، قال : وسمعت ذا النون يقول : لا يزال العارف ما دام في دار الدنيا مترددا بين الفقر والفخر ، فإذا ذكر الله افتخر وإذا ذكر نفسه افتقر ، قال : وسمعت ذا النون وسئل : بم عرف العارفون ربهم ؟ فقال : إن كان بشيء فبقطع الطمع والإشراف منهم على اليأس مع التمسك منهم بالأحوال التي أقامهم عليها وبذل المجهود من أنفسهم ، ثم إنهم وصلوا بعد إلى الله بالله .
حدثنا عثمان بن محمد العثماني ، ثنا أحمد بن عيسى الرازي ، قال : سمعت [ ص: 354 ] يوسف بن الحسين ، يقول : سمعت ذا النون المصري ، وذكر يوما علو المراتب وقرب الأولياء وفوائد الأصفياء وأنس المحبين ، فأنشأ يقول :
ومحب الإله في غيب أنس ملك القدر خادم الزي عبد
هو عبد وربه خير رب ما لقلب الفتى عن الله ضد
هو عبد وربه خير رب ما لقلب الفتى عن الله ضد
وقال يوسف : وسألت ذا النون : ما علامة الآخرة في الله ، قال : ثلاث : الصفاء ، والتعاون ، والوفاء . فالصفاء في الدين ، والتعاون في المواساة ، والوفاء في البلاء " .
حدثنا عثمان بن محمد ، حدثني أحمد بن عبد الله القرشي ، حدثني محمد بن خلف ، قال : سمعت إبراهيم بن عبد الله الصوفي ، يقول : سئل ذو النون عن سماع العظة الحسنة والنغمة الطيبة ، فقال : " مزامير أنس في مقاصير قدس بألحان توحيد في رياض تمجيد ، بمطربات الغواني في تلك المعاني المؤدية بأهلها إلى النعيم الدائم ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر . ثم قال : هذا لهم الخبر فكيف طعم النظر " .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق