الصوفية بين الماضى والحاضر: عبد القادر الجيلاني

الجمعة، 15 مارس 2013

عبد القادر الجيلاني


عبد القادر الجيلاني من اعلام الصوفية

طباعة

المكتبة الإسلامية > تراجم الأعلام > عرض الترجمة

الشيخ عبد القادر الشيخ الإمام العالم الزاهد العارف القدوة ، شيخ الإسلام ، علم الأولياء، محيي الدين ، أبو محمد ، عبد القادر بن أبي صالح عبد الله بن جنكي دوست الجيلي الحنبلي ، شيخ بغداد.

مولده بجيلان في سنة إحدى وسبعين وأربع مائة .

وقدم بغداد شابا ، فتفقه على أبي سعد المخرمي .

وسمع من : أبي غالب الباقلاني ، وأحمد بن المظفر بن سوس ، وأبي القاسم بن بيان ، وجعفر بن أحمد السراج ، وأبي سعد بن خشيش ، وأبي طالب اليوسفي ، وطائفة.

حدث عنه : السمعاني ، وعمر بن علي القرشي ، والحافظ عبد الغني ، والشيخ موفق الدين ابن قدامة ، وعبد الرزاق وموسى ولداه ، والشيخ علي بن إدريس ، وأحمد بن مطيع الباجسرائي ، وأبو هريرة ، محمد بن ليث الوسطاني ، وأكمل بن مسعود الهاشمي ، وأبو طالب عبد اللطيف بن محمد بن القبيطي ، وخلق ، وروى عنه بالإجازة الرشيد أحمد بن مسلمة.

أخبرنا القاضي تاج الدين عبد الخالق بن علوان ببعلبك ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد الفقيه سنة إحدى عشرة وست مائة ، أخبرنا شيخ الإسلام عبد القادر بن أبي صالح الجيلي ، أخبرنا أحمد بن المظفر التمار ، أخبرنا أبو علي بن شاذان .

أخبرنا أبو بكر محمد بن العباس بن نجيح ، أخبرنا يعقوب بن يوسف القزويني ، حدثنا محمد بن سعيد ، حدثنا عمرو بن أبي قيس ، عن سماك ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : إن بني إسرائيل استخلفوا خليفة عليهم بعد موسى ، فقام يصلي في القمر فوق بيت المقدس ، فذكر أمورا كان صنعها ، فخرج ، فتدلَّى بسببٍ ، فأصبح السبب مُعَلَّقًا في المسجد ، وقد ذهب ، فانطلق حتى أتى قوما على شط البحر ، فوجدهم يصنعون لبنا ، فسألهم : كيف تأخذون هذا اللبن ؟ فأخبروه، فلبَّن معهم ، وكان يأكل من عمل يده ، فإذا كان حين الصلاة ، تطهر فصلى ، فرفع ذلك العمال إلى قهرمانهم ، إن فينا رجلا يفعل كذا وكذا ، فأرسل إليه ، فأبى أن يأتيه -ثلاث مرات- ثم إنه جاءه بنفسه يسير على دابته ، فلما رآه فرَّ ، واتبعه فسبقه ، فقال : أنظرني أكلمك. قال : فقام حتى كلمه ، فأخبره خبره ، فلما أخبره خبره ، وأنه كان ملكا ، وأنه فر من رهبة الله ، قال : إني لأظن أني لاحق بك. فلحقه ، فعبدا الله حتى ماتا برملة مصر .

قال عبد الله : لو كنتُ ثَمَّ لاهتديتُ إلى قبريهما من صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي وَصَفَ .

هذا حديث غريب عال.

قال السمعاني : كان عبد القادر من أهل جيلان إمام الحنابلة وشيخهم في عصره ، فقيه صالح دين خير ، كثير الذكر ، دائم الفكر ، سريع الدمعة ، تفقه على المخرمي ، وصحب الشيخ حمادا الدباس ، وكان يسكن بباب الأزج في مدرسة بنيت له ، مضينا لزيارته ، فخرج وقعد بين أصحابه ، وختموا القرآن ، فألقى درسا ما فهمت منه شيئا ، وأعجب من ذا أن أصحابه قاموا وأعادوا الدرس ، فلعلهم فهموا لإلفهم بكلامه وعبارته .

قال ابن الجوزي كان أبو سعد المخرمي قد بنى مدرسة لطيفة بباب الأزج ، ففوضت إلى عبد القادر ، فتكلم على الناس بلسان الوعظ ، وظهر له صيت بالزهد ، وكان له سمت وصمت ، وضاقت المدرسة بالناس ، فكان يجلس عند سور بغداد مستندا إلى الرباط ، ويتوب عنده في المجلس خلق كثير ، فعمرت المدرسة ، ووسعت ، وتعصب في ذلك العوام ، وأقام فيها يدرِّس ويَعِظُ إلى أن توفي.

أنبأني أبو بكر بن طرخان ، أخبرنا الشيخ موفق الدين أبو محمد بن قدامة -وسئل عن الشيخ عبد القادر- فقال : أدركناه في آخر عمره ، فأسكننا في مدرسته ، وكان يُعْنَى بنا ، وربما أرسل إلينا ابنه يحيى ، فيسرج لنا السراج ، وربما يرسل إلينا طعاما من منزله ، وكان يصلي الفريضة بنا إماما ، وكنت أقرأ عليه من حفظي من كتاب الخرقي غُدْوَةً ، ويقرأ عليه الحافظ عبد الغني من كتاب "الهداية" في الكتاب ، وما كان أحد يقرأ عليه في ذلك الوقت سوانا ، فأقمنا عنده شهرا وتسعة أيام ، ثم مات ، وصلينا عليه ليلا في مدرسته ، ولم أسمع عن أحد يحكى عنه من الكرامات أكثر مما يحكى عنه ، ولا رأيت أحدا يعظمه الناس للدين أكثر منه ، وسمعنا عليه أجزاء يسيرة.

قرأت بخط الحافظ سيف الدين بن المجد ، سمعت محمد بن محمود المراتبي ، سمعت الشيخ أبا بكر العماد رحمه الله يقول : كنت قرأت في أصول الدين ، فأوقع عندي شكا ، فقلت : حتى أمضي إلى مجلس الشيخ عبد القادر ، فقد ذكر أنه يتكلم على الخواطر ، فمضيت وهو يتكلم .

فقال : اعتقادنا اعتقاد السلف الصالح الصحابة. فقلت في نفسي : هذا قاله اتفاقا ، فتكلم ثم التفتَ إلى ناحيتي ، فأعاده ، فقلتُ ، الواعظ قد يلتفتُ ، فالْتَفَتَ إليَّ ثالثة ، وقال : يا أبا بكر ، فأعاد القول : ثم قال : قم قد جاء أبوك. وكان غائبا ، فقمت مبادرا ، وإذا أبي قد جاء.

وحدثنا أبو القاسم بن محمد الفقيه ، حدثني شيخنا جمال الدين يحيى بن الصيرفي ، سمعت أبا البقاء النحوي قال : حضرت مجلس الشيخ عبد القادر ، فقرءوا بين يديه بالألحان ، فقلت في نفسي : ترى لأي شيء ما ينكر الشيخ هذا ؟ فقال : يجيء واحد قد قرأ أبوابا من الفقه ينكر. فقلت في نفسي : لعل أنه قصد غيري ، فقال : إياك نعني بالقول ، فتبت في نفسي من اعتراضي ، فقال : قد قبل الله توبتك.

وسمعت الإمام أبا العباس أحمد بن عبد الحليم ، سمعت الشيخ عز الدين الفاروثي ، سمعت شيخنا شهاب الدين السهروردي يقول : عزمت على الاشتغال بأصول الدين ، فقلت في نفسي : أستشير الشيخ عبد القادر ، فأتيتُه ، فقال قبل أن أنطق : يا عمر ، ما هو مِن عُدَّةِ القبر ، يا عمر ، ما هو من عدة القبر .

قال الفقيه محمد بن محمود المراتبي : قلت للشيخ الموفق : هل رأيتم من الشيخ عبد القادر كرامة ؟ قال : لا أظن ، لكن كان يجلس يوم الجمعة ، فكنا نتركه ونمضي لسماع الحديث عند ابن شافع فكل ما سمعناه لم ننتفع به. قال الحافظ السيف : يعني لنزول ذلك.

قال شيخنا الحافظ أبو الحسين علي بن محمد : سمعت الشيخ عبد العزيز بن عبد السلام الفقيه الشافعي يقول : ما نقلت إلينا كرامات أحد بالتواتر إلا الشيخ عبد القادر ، فقيل له : هذا مع اعتقاده ، فكيف هذا ؟ فقال : لازم المذهب ليس بمذهب.

قلت : يشير إلى إثباته صفة العلو ونحو ذلك ، ومذهب الحنابلة في ذلك معلوم ، يمشون خلف ما ثبت عن إمامهم -رحمه الله- إلا من يشذ منهم ، وتوسع في العبارة.

قال ابن النجار في "تاريخه" : دخل الشيخ عبد القادر بغداد في سنة ثمان وثمانين وأربع مائة ، فتفقه على ابن عقيل ، وأبي الخطاب ، والمخرمي ، وأبي الحسين بن الفراء ، حتى أحكم الأصول والفروع والخلاف ، وسمع الحديث ، وقرأ الأدب على أبي زكريا التبريزي ، واشتغل بالوعظ إلى أن برز فيه ، ثم لازم الخلوة والرياضة والمجاهدة والسياحة والمقام في الخراب والصحراء ، وصحب الدّبَّاس ، ثم إن الله أظهره للخلق ، وأوقع له القبول العظيم ، فعقد مجلس الوعظ في سنة إحدى وعشرين ، وأظهر الله الحكمة على لسانه ، ثم درس ، وأفتى ، وصار يقصد بالزيارة والنذور ، وصنف في الأصول والفروع ، وله كلام على لسان أهل الطريقة عال. وكتب إليَّ عبد الله بن أبي الحسن الجُبَّائي : قال لي الشيخ عبد القادر : طالبتني نفسي يوما بشهوة ، فكنت أضاجرها ، وأدخل في درب ، وأخرج من آخر أطلب الصحراء ، فرأيت رقعة ملقاة ، فإذا فيها : ما للأقوياء والشهوات ، وإنما خلقت الشهوات للضعفاء. فخرجت الشهوة من قلبي. قال : وكنت أقتات بخروب الشوك وورق الخس من جانب النهر .

قال ابن النجار : قرأت بخط أبي بكر عبد الله بن نصر بن حمزة التيمي ، سمعت الشيخ عبد القادر يقول : بلغت بي الضائقة في الغلاء إلى أن بقيت أياما لا آكل طعاما ، بل أتبع المنبوذات ، فخرجت يوما إلى الشط ، فوجدت قد سبقني الفقراء ، فضعفت ، وعجزت عن التماسك ، فدخلت مسجدا ، وقعدت ، وكدت أصافح الموت ، ودخل شاب أعجمي ومعه خبز وشواء ، وجلس يأكل ، فكنت أكاد كلما رفع لقمة أن أفتح فمي ، فالتفتَ فرآني ، فقال : باسم الله ، فأبيتُ ، فأقسم عليَّ ، فأكلت مقصرا ، وأخذ يسألني ، ما شغلك ، ومن أين أنت ؟ فقلت : متفقه من جيلان. قال : وأنا من جيلان ، فهل تعرف لي شابا جيلانيا اسمه عبد القادر ، يُعرف بسبط أبي عبد الله الصومعي الزاهد ؟ فقلت : أنا هو. فاضطرب لذلك ، وتغير وجهه ، وقال : والله يا أخي ، لقد وصلت إلى بغداد ومعي بقية نفقة لي ، فسألت عنك ، فلم يرشدني أحد إلى أن نفدت نفقتي ، وبقيت بعدها ثلاثة أيام لا أجد ثمن قوتي إلا من مالك ، فلما كان هذا اليوم الرابع ، قُلت : قد تجاوزتني ثلاثه أيام ، وحلت لي الميتة ، فأخذت من وديعتك ثمن هذا الخبز والشواء ، فكل طيبا ، فإنما هو لك ، وأنا ضيفك الآن. فقلت : وما ذاك ؟ قال : أمك وجهت معي ثمانية دنانير ، والله ما خنتك فيها إلى اليوم ، فسكنته ، وطيبت نفسه ، ودفعت إليه شيئا منها .

قال ابن النجار : كتب إلي عبد الله بن أبي الحسن الجبائي ، قال : قال لي الشيخ عبد القادر : كنت في الصحراء أكرر في الفقه وأنا في فاقة ، فقال لي قائل لم أرَ شَخْصَهُ : اقترضْ ما تستعين به على طلب الفقه ، فقلت : كيف أقترض وأنا فقير ولا وفاء لي ؟ قال : اقترض وعلينا الوفاء.

فأتيت بقالا ، فقلت : تعاملني بشرط إذا سهل الله أعطيتك ، وإن مُتُّ تجعلُنِي في حِلٍّ ، تعطيني كل يوم رغيفا ورشادا. فبكي ، وقال : أنا بحكمك. فأخذت منه مدة ، فضاق صدري ، فأظن أنه قال : فقيل لي : امض إلى موضع كذا ، فأي شيء رأيت على الدَّكة ، فخُذْهُ ، وادفعه إلى البقال. فلما جئت رأيت قطعة ذهب كبيرة ، فأعطيتها البقلي.

ولحقني الجنون مرة ، وحملت إلى المارستان ، فطرقتني الأحوال حتى [حسبوا أني] مت ، وجاءوا بالكفن ، وجعلوني على المغتسل ، ثم سري عني ، وقمت ، ثم وقع في نفسي أن أخرج من بغداد لكثرة الفتن ، فخرجت إلى باب الحلبة ، فقال لي قائل : إلى أين تمشي ؟ ! ودفعني دفعة خررت منها ، وقال : ارجع فإن للناس فيك منفعة ، قلت : أريد سلامة ديني. قال : لك ذاك -ولم أَرَ شخصه -. ثم بعد ذلك طرقتني الأحوال ، فكنت أتمنى من يكشفها لي ، فاجتزت بالظفرية ففتح رجل داره ، وقال : يا عبد القادر ، أيش طلبت البارحة ؟ فنسيت ، فسكت ، فاغتاظ ، ودفع الباب في جهي دفعة عظيمة ، فلما مشيت ذكرت ، فرجعت أطلب الباب ، فلم اجده ، قال : وكان حمادا الدباس ، ثم عرفته بعد ، وكشف لي جميع ما كان يُشْكِلُ عليَّ .

وكنت إذا غبت عنه لطلب العلم وجئت ، يقول : أيش جاء بك إلينا ، أنت فقيه ، مر إلى الفقهاء ، وأنا أسكت ، فلما كان يوم جمعة خرجت مع الجماعة في شدة البرد ، فدفعني ألقاني في الماء ، فقلت : غُسْلُ الجمعة ، باسم الله .

وكان عليَّ جبة صوف ، وفي كمي أجزاء ، فرفعت كمي لئلا تهلك الأجزاء ، وخلوني ، ومشوا ، فعصرت الجبة ، وتبعتهم ، وتأذيت بالبرد كثيرا ، وكان الشيخ يؤذيني ويضربني ، وإذا جئت يقول : جاءنا اليوم الخبز الكثير والفالوذج ، وأكلنا وما خبأنا لك وحشة عليك ، فطمع فيّ أصحابه ، وقالوا : أنت فقيه ، أيش تعمل معنا ؟ فلما رآهم يؤذونني ، غار لي ; وقال : يا كلاب لم تؤذونه ؟ والله ما فيكم مثله ، وإنما أوذيه لأمتحنه ، فأراه جبلا ، لا يتحرك .



ثم بعد مدة ، قدم رجل من همذان يقال له : يوسف الهمذاني ، وكان يقال : إنه القطب ، ونزل في رباط ، فمشيت إليه ، فلم أره ، وقيل لي : هو في السرداب ، فنزلت إليه ، فلما رآني قام ، وأجلسني ، ففرشني ، وذكر لي جميع أحوالي ، وحل لي المشكل علي ، ثم قال لي : تكلم على الناس ، فقلت : ياسيدي ، أنا رجل أعجمي قح أخرس ، أتكلم على فصحاء بغداد ! ؟ فقال لي : أنت حفظت الفقه وأصوله ، والخلاف والنحو واللغة وتفسير القرآن لا يصلح لك أن تتكلم ؟ ! اصعد على الكرسي وتكلم ؛ فإني أري فيك عِذْقا سيصير نخلة.

قال الجبائي : وقال لي الشيخ عبد القادر : كنت أومر وأنهى في النوم واليقظة ، وكان يغلب علي الكلام ، ويزدحم على قلبي أن لم أتكلم به حتى أكاد أختنق ، ولا أقدر أسكت ، وكان يجلس عندي رجلان وثلاثة ، ثم تسامع الناس بي ، وازدحم علي الخلق ، حتى صار يحضر مجلسي نحو من سبعين ألفا.

وقال : فتشت الأعمال كلها ، فما وجدت فيها أفضل من إطعام الطعام ، أود لو أن الدنيا بيدي فأطعمها الجياع ، كفي مثقوبة لا تضبط شيئا ، لو جاءني ألف دينار لم أبيتها ، وكان إذا جاءه أحد بذهب ، يقول : ضعه تحت السجادة .

وقال لي : أتمنى أن أكون في الصحارى والبراري كما كنت في الأول لا أرى الخلق ولا يروني.

ثم قال : أراد الله مني منفعة الخلق ، فقد أسلم على يدي أكثر من خمس مائة ، وتاب على يدي أكثر من مائة ألف ، وهذا خير كثير ، وترد علي الأثقال التي لو وضعت على الجبال تفسخت ، فأضع جنبي على الأرض ، وأقول : فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ثم أرفع رأسي وقد انفرجت عني. وقال : إذا ولد لي ولد أخذته على يدي ، وأقول : هذا ميت ، فأخرجه من قلبي ، فإذا مات لم يؤثر عندي موته شيئا.

قال عبد الرزاق ابن الشيخ : ولد لأبي تسعة وأربعون ولدا ، سبعة وعشرون ذكرا ، والباقي إناث .

وقال الجبائي : كنت أسمع في "الحلية" على ابن ناصر ، فرق قلبي ، وقلت : اشتهيت لو انقطعت ، وأشتغل بالعبادة ، ومضيت ، فصليت خلف الشيخ عبد القادر ، فلما جلسنا ، نظر إلي ، وقال : إذا أردت الانقطاع ، فلا تنقطع حتى تتفقه وتجالس الشيوخ وتتأدب ، وإلا فتنقطع وأنت فُرَيْخٌ ما رَيَّشْتَ.

وعن أبي الثناء النهرملكي قال : تحدثنا أن الذباب ما يقع على الشيخ عبد القادر ، فأتيته ، فالتفت إلي ، وقال : أيش يعمل عندي الذباب ، لا دبس الدنيا ، ولا عسل الآخرة.

قال أبو البقاء العكبري : سمعت يحيى بن نجاح الأديب يقول : قلت في نفسي : أريد أن أحصي كم يقص الشيخ عبد القادر شَعْرَ تائب ، فحضرت المجلس ومعي خيط ، فلما قص شعرا ، عقدت عقدة تحت ثيابي من الخيط وأنا في آخر الناس ، وإذا به يقول : أنا أحل وأنت تعقد ؟ !

قال ابن النجار : سمعت شيخ الصوفية عمر بن محمد السهروردي يقول : كنت أتفهه في صباي ، فخطر لي أن أقرأ شيئا من علم الكلام ، وعزمت على ذلك من غير أن أتكلم به ، فصليت مع عمي أبي النجيب ، فحضر عنده الشيخ عبد القادر مسلِّمًا ، فسأله عمي الدعاء لي ، وذكر له أني مشتغل بالفقه ، وقمت قبلت يده ، فأخذ يدي ، فقال : تب مما عزمت عليه من الاشتغال به ، فإنك تفلح ، ثم سكت ، ولم يتغير عزمي عن الاشتغال بالكلام حتى شوشت علي جميع أحوالي ، وتكدر وقتي ، فعلمت أن ذلك بمخالفة الشيخ .

ابن النجار : سمعت أبا محمد بن الأخضر يقول : كنت أدخل على الشيخ عبد القادر في وسط الشتاء وقوة برده وعليه قميص واحد ، وعلى رأسه طاقية ، وحوله من يروحه بالمروحة. قال : والعرق يخرج من جسده كما يكون في شدة الحر .

ابن النجار : سمعت عبد العزيز بن عبد الملك الشيباني ، سمعت الحافظ عبد الغني ، سمعت أبا محمد بن الخشاب النحوي يقول : كنت وأنا شاب أقرأ النحو ، وأسمع الناس يصفون حسن كلام الشيخ عبد القادر ، فكنت أريد أن أسمعه ولا يتسع وقتي ، فأتفق أني حضرت يوما مجلسه ، فلما تكلم لم أستحسن كلامه ، ولم أفهمه ، وقلت في نفسي : ضاع اليوم مني. فالتفت إلى ناحيتي ، وقال : ويلك تفضل النحو على مجالس الذكر ، وتختار ذلك ؟ ! اصحبنا نصيرك سيبويه.

قال أحمد بن ظفر بن هبيرة : سألت جدي أن أزور الشيخ عبد القادر ، فأعطاني مبلغا من الذهب لأعطيه ، فلما نزل عن المنبر سلمت عليه ، وتحرجت من دفع الذهب إليه في ذلك الجمع ، فقال : هات ما معك ولا عليك من الناس ، وسلم على الوزير.

قال صاحب "مرآة الزمان" كان سكوت الشيخ عبد القادر أكثر من كلامه ، وكان يتكلم على الخواطر ، وظهر له صيت عظيم وقبول تام ، وما كان يخرج من مدرسته إلا يوم الجمعة أو إلى الرباط ، وتاب على يده معظم أهل بغداد ، وأسلم خلق ، وكان يصدع بالحق على المنبر ، وكان له كرامات ظاهرة.

قلت : ليس في كبار المشايخ من له أحوال وكرامات أكثر من الشيخ عبد القادر ، لكن كثيرا منها لا يصح ، وفي بعض ذلك أشياء مستحيلة.

قال الجبائي : كان الشيخ عبد القادر يقول : الخلق حجابك عن نفسك ، ونفسك حجابك عن ربك.

عاش الشيخ عبد القادر تسعين سنة وانتقل إلى الله في عاشر ربيع الآخر سنة إحدى وستين وخمس مائة وشيعه خلق لا يحصون ، ودفن بمدرسته -رحمه الله تعالى.

وفيها مات أبو المحاسن إسماعيل بن علي بن زيد بن شهريار الأصبهاني ، سمع من رزق الله التميمي ، والمحدث العلامة أبو محمد عبد الله بن محمد الأشيري المغربي ودفن بظاهر بعلبك ، والإمام الرئيس أبو طالب عبد الرحمن بن الحسن بن العجمي واقف المدرسة بحلب .

وعلي بن أحمد الحرستاني راوي جزء الرافقي ، وأبو رشيد محمد بن علي بن محمد بن عمر الأصبهاني الباغبان ، وأبو عبد الله الرستمي وأبو طاهر إبراهيم بن الحسن بن الحصني الشافعي بدمشق ، والقاضي مهذب الدين الحسن بن علي بن الرشيد بن الزبير الأسواني الشاعر أخو الرشيد أحمد .

وأبو محمد عبد الله بن الحسين بن رواحة الأنصاري الحموي المقرئ الشاعر والمسند ابن رفاعة والفقيه المقرئ عبد الصمد بن الحسين بن أحمد بن تميم التميمي الدمشقي ، وشيخ القراء أبو حميد عبد العزيز بن علي السماني الإشبيلي والشيخ علي بن أحمد الحرستاني راوي جزء الرافقي.

وفي الجملة الشيخ عبد القادر كبير الشأن ، وعليه مآخذ في بعض أقواله ودعاويه ، والله الموعد ، وبعض ذلك مكذوب عليه. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق