الحمد لله رب العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبة أجمعين وبعد.
فقد انتشر على ألسنة بعض العوام وبعض أدعياء العلم أنَّ التوسُّل بالأنبياء والأولياء والصَّالحين بدعةٌ ليست من دين الإسلام في شيء، وأنه أمرٌ لم يأت به الشَّرع الشَّريف ولم يرد في سُنة المصطفى ولا أُثر عن أحد من الأصحاب والتابعين، وأنه فاعله على خطر عظيم.
ونحن نقول: بل قائل هذا على خطر عظيم وجهل عميمٍ بسُنن المصطفى صلى الله عليه وسلم وآثار السَّلف الصَّالحين وأقوال أهل العلم أجمعين؛ فالتوسُّل قد وردت به السُّنن والآثار الصَّحيحة التي لا سبيل لردها بالعقل والهوى والتشهي والتقليد الأعمى والتعصب، فقد جاء في مسند أحمد (17240)، وسنن الترمذي (3578) وابن ماجه في سننه (1385)، والنَّسائيُّ في الكُبرى (10419) وابن خزيمة في صحيحه (1219) وعبد بن حميد في مسنده (379) والحاكم في مستدركه (1/312) بسند صحيح مشرق كالشمس من حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه: أن رجلًا ضرير البصر أتى النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلم فقال: ادعُ الله أن يعافيني. قال: «إن شئتَ دعوتُ وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك» قال: فادعه. قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي لي، اللهم فشفعه في» قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح غريب» وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه».
فالحديث صحيح ومنكره على خطر عظيم؛ لأنه ردَّ سُنة الحبيب المصطفى والنَّبيِّ المجتبى صلَّى الله عليه وسلَّم، ولو اكتفى هؤلاء - في خاصة أنفسهم - بترك هذه السُّنة الشَّريفة وهجرها لهان الخطب؛ لأنهم بذلك قد ضيعوا على أنفسهم وحدهم الخير العظيم، وحرموا أنفسهم من أرجى الوسائل وأشرفها وأعلاها ألا وهو سيد المرسلين وإمام المتقين، ولكنهم لم يكتفوا بهجر السُّنة بل دعوا الناس إلى تركها وهجرها، وهذا فيه ردُّ الأمر على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وصدُّ الخلق عن سُنن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وقد اعترف بعضهم بأنَّ هذا الحديثَ صحيح لكنه زعم أنه خاصٌّ بحياة المصطفى صلى الله عليه وسلم دون وفاته، وعلى ذلك فقد حاولوا صدَّ الأُمة عن هذا الخير العظيم الذي أرشد إليه الحبيب صلى الله عليه وسلم.
ولا شكَّ أنَّ قائل هذا جاهل بأبسط مبادئ علم أصول الفقه، مقلد جامد متعصب؛ لأنه لا يدرك أنَّ الأصل في التشريع هو العموم لعصر النبي صلى الله عليه وسلم وجميع الأعصار من بعده إلى يوم القيامة، وأن قول وفعل النبي صلى الله عليه وسلم الأصل فيه أنه تشريع له ولأمته من بعده في حياته وبعد انتقاله الشريف، وأن النسخ والتخصيص لا يكون إلا بدليل صحيح صريح أما التخصيص بمحض الهوى والتشهي والتقليد البغيض فإنه من صفات الذي لا يعلمون.
o ونقول للمعترض: إذا كنت أيها المعترض ترى التوسل بحبك للنبي صلى الله عليه وسلم أمرًا حسنا وهو كذلك، أفيحسن منك أن تجعل توسلك به ذاته صلى الله عليه وسلم عملا مرذولا؟ وحبك له عمل قلبك وعمل قلبك مهما بالغت فيه فهو ناقص، فكيف ساغ في ذهنك يا رجل حسن توسلك بمحبتك له صلى الله عليه وسلم، ثم تقبح توسلك به ذاته صلى الله عليه وسلم. هذا عجب غير مفهوم.
o الحق عندي أن التوسل به صلى الله عليه وسلم من أفضل القربات وأعظمها حتى لو لم ترد به بخصوصه نصوص؛ فهو لا شك داخل في عموم قوله تعالى «وابتغوا إليه الوسيلة» فكيف وقد وردت به بخصوصه النصوص وعمل به الصحابة والسلف الكرام؟
وبعض المعترضين يطلب دليلا قطعيا على صحة التوسل.
o فنقول: بل هذه المسائل تثبت بالدليل الظني وهي مسائل فقهية عند الناس قديما وحديثا حتى الشيخ محمد بن عبد الوهاب نفسه قال إنها من مسائل الاجتهاد والشيخ الألباني في مقدمة الطحاوية في رده على الشيخ عبد الفتاح أبي غدة رحمه الله قال إنها من مسائل الفروع. والفقه من باب الظنون كما قال البيضاوي في المنهاج الأصولي؛ أي يكتفى فيه بالدليل الظني الصحيح، فهذا ليس مطلبا في أصول العقائد حتى نطالب فيه بدليل قطعي الثبوت أي متواتر في إسناده قطعي الدلالة أي لا يحتمل تأويلا. هل نحن بصدد إثبات وجود الله حتى نطالب بهذا النوع من الأدلة.
o وقد ارتكب ابن تيمية رحمه الله وغفر له تناقضا عجيبا في فهم حديث التوسل فقد أنكر على القائلين بالمجاز وشنع عليهم وجعله ليس من لغة العرب أصلا ولا من لغة القرآن ولا السُّنة. ثم جاء في هذا الحديث بالذات والتزم التأويل. فجعل (أتوجه بنبيك) أي بدعاء نبيك. والقواعد من شانها أن تطرد وأن تكون عامة وليس من العلم في شيء السير على القواعد وقتما نشاء والتنكب عنها وهجرانها وقتما نشاء. هذا هو عين التناقض الذي وقع فيه ابن تيمية وبنى عليه علالي وقصورا هاويات، والكثير اليوم يسير وراءه مقلدا له غير متبصرين.
o وأنا أسأل كل من يدعي السلفية تبصر في شأنك أأنت من الرافضين للتأويل؟ أو أنت من القائلين به؟ أو أنت تتبع فيه الهوى والمزاج عندما تكره تشنع على أهل التأويل، وعندما يحلو لك التأويل تفعله. وتقول : إن أتوسل إليك بنبيك تعني : بدعاء نبيك!!!!
وهناك رواية أخرى للحديث تثبت دعوانا بفضل الله عز وجل على جواز التوسل بذاته الشريفة صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته وهي ما رواه ابن أبي خيثمة في التاريخ من طريق حماد بن سلمة أنا أبو جعفر الخطمي عن عمارة بن خزيمة عن عثمان بن حنيف .... الحديث وفيه: وإن كانت لك حاجة فافعل مثل ذلك.
نقلته من رفع المنارة بتخريج أحاديث التوسل والزيارة للدكتور محمود سعيد (ص106) فتاريخ ابن أبي خيثمة ليس تحت يدي الآن.
وهذا دليل على العموم الذي ينكره المعترض.
ولمن يدعي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تركوا التوسل به بعد وفاته نقول :
o أولا: إن تركهم ليس بحجة بل إن مجرد ترك النبي صلى الله عليه وسلم لأمر ما لا يكون حجة على تحريم الشيء. لم يقل بحجية الترك أحد من أهل الأصول.
ثانيا إن صحابة النبي فعلوه ولم يتركوه، فحكاية الترك هذه فرية عظيمة على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك يتمحلون لجعل علة هذا الترك المتوهم في أذهانم الحرمة أو مظنة الوقوع في الشرك مع أن الترك أوسع من الحرمة؛ لأنه يشمل المندوب والمباح أيضًا. فإن سلمن بالترك فالمعترض مطالب بتعيين أنهم تركوه تحريما له..
o وحادثة الاستستقاء وتوسل سيدنا عمر بالعباس رضي الله عنه ليس فيها ترك للتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أصلا لأنه توسل بصلاة الاستسقاء التي تحتاج إلى إمام حي فهي ليست داخلة في محل النزاع أصلا. وقد ذكرنا لك أن كلمة سيدنا عمر (كنا نتوسل إليك بنبيك) متعين فيها بحسب السياق والحال أي: بصلاة الاستسقاء التي يؤمنا فيه نبيك؛ لأن هذا هو الواقع والحادث بالفعل في حياته صلى الله عليه وسلم، لكن كلمة التوسل عند المعترض لها معنى واحد ضيق لا يفهم غيره يفسرها به في كل نص وموضع. يا أخي أليست صلاة الاستسقاء توسلا أيضا؟
o وقد قال بعض المعترضين أيضا: أنت تنفي أن يكون ترك الصحابة حجة : فما تقول في هذه النقول عن أهل العلم : ـ وقال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية : ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان أنكروا غير الصلوات الخمس كالعيدين وإن لم يكن فيه نهي، وكرهوا استلام الركنين الشاميين.
وقلنا ردا عليهم: هل قوله أنكروا وكرهوا في اللغة تساوي عندك تركوا؟ الإنكار هنا تصريح بالتحريم، والتصريح قول، فهم أنكروا بقولهم فلو تركوا ما أنكروه تكون الحجة في قولهم، وكلمة أنكروا وكرهوا بواو الجمع واضحة في أن هذا إجماع للصحابة ولا خلاف في حجية إجماعهم. أما تركهم فلا أعلم احدًا قال بدلالته على شيء أصلا إلا ابن تيمية ثم مقلدوه وعندك كتب أصول الفقه قديما وحديثا. فارجع إليها إن شئت.
وقال لي معترض جاهل: ولو كان الأمر عاماً كما تدعي لكان التوسل به صلى الله عليه وسلم معجزة سارية المفعول ، وكانت وسيلة لرد بصر كل كفيف ، ولكن لما لم يفعل ذلك الصحابة دل على أمر آخر ..... وقال الجاهل: لو كانت معجزة سارية فهيا بنا نأتي بكفيف ويدعو ويتوسل كما أدعيت أخ أشرف ثم ننظر النتيجة... فإن رد الله عليه بصره صدقت في دعواك / وإلا فأنت مدعٍ أمراً لا أساس له من الصحة ..
فقلت له: أستغفر الله العظيم هذه سخرية حسابك فيها عند الله لا عندي. فلن أرد على هذا فعند الله تعالى رده أبلغ الرد عاجلًا إن شاء الله. أما كوننا نأت بكفيف فيدعو ويتوسل ثم يستجاب أو لا يستجاب فهذا أمر يرجع إلى مشيئة الله تعالى وقدرته وإرادته، وكونه لا يستجاب له شيء، وكون التوسل أمرا مشروعا شيء آخر. وإن شئت يا أخي رددتُ عليك بنفس أسلوبك فأقول لك هات هذا الكفيف واجعله يدعو متوجهًا إلى الله وحده بلا توسل أو يتوسل بعمله الصالح أو باسم من أسمائه تعالى أو صفة من صفاته أو يتوسل بذاته تعالى إليه فهل تجزم بأن بصره سيرد عليه؟ أو إن استجابة الدعاء واقعة تحت المشيئة مهما كانت وسيلة هذا الدعاء؟ حقًّا أمسك لساني عن مثل هذا وأستغفر الله أني أجاريك فيه.
فإن قلت: جربنا التوسل بالأعمال فوجدناه ناجعًا نافعا. قلت لك: أيضا جربنا هذا وذاك فوجدناهما نافعين ناجعين بإذن الله تعالى. فكل من عند الله تعالى.
وقد ناقشني أحد المتعصبين في متن ومضمون الحديث قائلا:
من جهة المتن فقلت : كيف يقع ذلك من عثمان بن عفان وقد توعد النبي (صلى الله عليه وسلم) فاعل ذلك من الأمراء والخلفاء فقال (صلى الله عليه وسلم) : " من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم : احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة " وفي رواية " ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته " ( د ، ت ) ..... وعثمان هنا احتجب عن هذا الرجل فهل يا ترى كان عثمان جاهلاً حتى انه لم يعرف حقوق رعيته عليه ؟ أم أنه كان متكبراً كما قالت الرافضة ، واستدلوا بهذا الأثر ، أم أم أم أم ..... الخ .. فكيف جوابك على هذا ؟ وهل يليق هذا بسيدنا عثمان ؟
أقول: أولا إذا كنت تدعي عصمة الصحابة رضي الله عنهم من الخطأ والذلل وأن سيدنا عثمان رضي الله عنه معصوم لا يخطئ أبدًا فهات الدليل على العصمة نسلم لك بنكارة المتن مهما بلغ إسناده من القوة والمتانة.
وإن كنت تسلم أنهم رضي الله عنهم ليسوا بمعصومين لا من الكبائر ولا من الصغائر وما يقع منهم من ذلك اللمم ذائب بإذن الله تعالى في بحار أفضالهم وجهادهم مع النبي صلى الله عليه وسلم. فلم تستبعد أن يصدر من سيدنا عثمان مثل هذا؟ والصحابة وقعت منهم أشياء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته تقطع بعدم عصمتهم من صغائر الذنوب وكبائرها، وسيدنا عثمان رضي الله عنه ليس مستثنى من هذه القاعدة، على علو قدره وعظم منزلته رضي الله عنه.
ثم إن الرواية يا أخي الكريم ليس فيها كل هذه التهويلات التي زعمتها فليس فيها غير أن سيدنا عثمان رضي الله عنه لم يلتفت إلى حاجة الرجل ولم ينظر فيها، فليس فيها احتجاب ولا أي شيء غاية ما هنالك أن يكون سيدنا عثمان قد تشاغل عن الرجل بكثرة الأعمال الملقاة فوق كاهلة رضي الله عنه وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوارد منه أن يتشاغل عن المهم بما هو أهم وليس في هذا ما يطعن في سيدنا عثمان رضي الله عنه. والدليل على هذا ما ورد في الرواية ذاتها (ثم قال له : ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة وقال ما كانت لك من حاجة فأتنا) يعني أن سيدنا عثمان نسي والنسيان والسهو مرفوع في مجال المؤاخذة بالإجماع، وما نقلته من الوعيد هو في حق من تعمد الاحتجاب عن الرعية، فلم تعظم الأمور حتى تلحقنا بالرافضة يا رجل؟. غفر الله لك.
وقد قال المعترض: سبق لك أن عنفتني شديداً عندما أضفتُ لفظاً لدعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) وأدخلت المسألة في إيمان وكفر ، والآن جاء الدور عليك ، فالزيادة على كلام النبي (صلى الله عليه وسلم) كالنقص منه ، وفي هذه الرواية ضاع الجزء المهم والركن المفيد في التوسل وهو قول الضرير (اللهم شفعه في وشفعني فيه ) وهذا لب التوسل في الحديث !!! فلماذا لم يدل عليها عثمان بن حنيف الرجل ؟؟؟ وما موقفك من عثمان هذا الذي غير وبدل وحذف ولم يطق أن يقول ما قاله النبي (صلى الله عليه وسلم) ؟؟؟؟؟ وما كان يقصد من ذلك عثمان بن حنيف ؟؟؟
فقلت له: موقفي من سيدنا عثمان بن حنيف رضي الله عنه. أنه سيدنا وتاج رؤوسنا رضي الله عنه لم يعدل عن لفظ النبي ولم يشمأز كما فعلت أنت يا أخي ولم يتأوله بلا ضرورة كما فعلت أنت، غاية ما هنالك أنه رضي الله عنه اقتصر من كلام النبي صلى الله عليه وسلم على ما تدعو إليه الحاجة في هذا الموقف. فعلم الأعرابي ما تكرهه أنت من التوسل بذات النبي بعد انتقاله الشريف صلى الله عليه وسلم. ففعله مغاير بل مناقض لفعلك غاية المناقضة. واختصار اللفظ شيء والعدول عنه بالكلية وتحريفه أمر آخر.
وقد قال المعترض أيضا: ما فعله عثمان بن حنيف مردود بفعل الصحابة جميعاً.
أقول: لا تضحكني يا رجل ، أين ما تدعيه من فعل الصحابة؟ أنت تدعي الترك لا الفعل ولم تقم دليلا على كون الترك حجة يعني تستدل بالعدم. وحتى لو ثبت ما تدعيه وهو غير ثابت لكان غاية ما يدل عليه أن بعض الصحابة فعله وبعضهم لم يفعله. فثبتت المشروعية في الجملة.
وأيضًا نقول لهم على من تردون وتنكرون؟ هل تردون على المتوسلين المتبعين سنن خاتم النبيين، أم تردون على المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي (لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى) أم تجعلون هديكم اهدى من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي قال فيما رواه البيهقي في شُعب الإيمان (10376) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «لَيْسَ شَيْءٌ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلاَّ أَمَرْتُكُمْ بِهِ ، وَلاَ شَيْءٌ يُبَاعِدُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَيُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلاَّ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ».
ونحن نقول لهولاء المَّدعين الذين يمنعون وينكرون التوسل بالأنبياء والأولياء والصَّالحين خلافا لكلام سيد المرسلين: أين ذهبت عقولكم؟ ألستم تجيزون التوسُّل بالأعمال الصالحة؟ ألستم تجيزون التوسُّل بدُعاءِ الرَّجل الصَّالح بل وغير الصَّالح، فيطلب بعضكم من بعض الدعاء حتى وإن لم يشتهر بالصلاح؟ فكيف تمنعون التوسل بما هو أعلى وأرقى مقامًا من أعمالكم ودعاء غيركم ألا وهو النَّبيُّ وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؟ وقد ورد به الحديث الشَّريف الصحيح؟ أليس هذا تناقضًا؟
إذا كانت الأعمالُ والَّدعواتُ الصَّالحة من أفضل القُربات إلى الله سبحانه وتعالى، فإنَّ الذوات النورانية الصَّالحة والأرواحَ الطَّاهرة هي كذلك من أفضل الوسائل المقربة من مرضاة الله تعالى واستجابة الدعاء.
قال الشوكاني رحمه الله: «التوسُّل به صلى الله عليه وآله وسلم يكون في حياته وبعد موته، وفي حضرته ومغيبه، ولا يخفاك أنه قد ثبت التوسُّل به صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، وثبت التوسل بغيره بعد موته بإجماع الصحابة إجماعًا سكوتيًّا لعدم إنكار أحدٍ منهم على عمر رضى الله عنه في التوسل بالعبَّاس رضى الله عنه، وعندي أنه لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم كما زعمه الشيخ عز الدين بن عبد السلام لأمرين:
الأول: ما عرفناك به إجماع الصحابة رضي الله عنهم.
والثاني: أن التوسل إلى الله بأهل الفضل والعلم هو في التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة ومزاياهم الفاضلة؛ إذ لا يكون الفاضل فاضلا إلا بأعماله.
فإذا قال القائل: «اللهم إني أتوسُّل إليك بالعالم الفلاني» فهو باعتبار ما قام به من العلم وقد ثبت في الصَّحيحين وغيرهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلم حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة أنَّ كل واحد منهم توسَّل إلى الله بأعظم عمل عمله فارتفعت الصَّخرة، فلو كان التوسُّل بالأعمال الفاضلة غيرَ جائز أو كان شركًا كما يزعمه المتشددون في هذا الباب كابن عبد السلام ومن قال بقوله من أتباعه، لم تحصل الإجابة من الله لهم، ولا سكت النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلَّم عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم، وبهذا تعلم أن ما يورده المانعون من التوسل إلى الله بالأنبياء والصلحاء من نحو قوله تعالى: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) ونحو قوله تعالى: (فلا تدعوا مع الله أحدا) ونحو قوله تعالى: (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء) ليس بواردٍ بل هو من الاستدلال على محلِّ النزاع بما هو أجنبي عنه، فإنَّ قولهم: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) مصرح بأنهم عبدوهم لذلك، والمتوسل بالعالم مثلا لم يعبده، بل علم أنَّ له مزيةً عند الله بحمله العلم فتوسَّل به لذلك، وكذلك قوله تعالى: (فلا تدعوا مع الله أحدًا) فإنه نهيٌ عن أن يُدعى مع الله غيره، كأن يقول: يا الله ويا فلان. والمتوسِّل بالعالم مثلًا لم يدع إلا الله، وإنما وقع منه التوسُّل إليه بعمل صالحٍ عمله بعض عباده، كما توسل الثلاثةُ الذين انطبقت عليهم الصخرة بصالح أعمالهم، وكذلك قوله: (والذين يدعون من دونه).... الآية. فإن هؤلاء دعوا من لا يستجيب لهم، ولم يدعوا ربهم الذي يستجيب لهم، والمتوسل بالعالم مثلا لم يدع إلا الله ولم يدع غيره دونه ولا دعا غيره معه». انتهى من كتاب الدر النضيد من ص18 إلى ص 21 طبعة دار ابن خزيمة.
فقد انتشر على ألسنة بعض العوام وبعض أدعياء العلم أنَّ التوسُّل بالأنبياء والأولياء والصَّالحين بدعةٌ ليست من دين الإسلام في شيء، وأنه أمرٌ لم يأت به الشَّرع الشَّريف ولم يرد في سُنة المصطفى ولا أُثر عن أحد من الأصحاب والتابعين، وأنه فاعله على خطر عظيم.
ونحن نقول: بل قائل هذا على خطر عظيم وجهل عميمٍ بسُنن المصطفى صلى الله عليه وسلم وآثار السَّلف الصَّالحين وأقوال أهل العلم أجمعين؛ فالتوسُّل قد وردت به السُّنن والآثار الصَّحيحة التي لا سبيل لردها بالعقل والهوى والتشهي والتقليد الأعمى والتعصب، فقد جاء في مسند أحمد (17240)، وسنن الترمذي (3578) وابن ماجه في سننه (1385)، والنَّسائيُّ في الكُبرى (10419) وابن خزيمة في صحيحه (1219) وعبد بن حميد في مسنده (379) والحاكم في مستدركه (1/312) بسند صحيح مشرق كالشمس من حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه: أن رجلًا ضرير البصر أتى النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلم فقال: ادعُ الله أن يعافيني. قال: «إن شئتَ دعوتُ وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك» قال: فادعه. قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي لي، اللهم فشفعه في» قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح غريب» وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه».
فالحديث صحيح ومنكره على خطر عظيم؛ لأنه ردَّ سُنة الحبيب المصطفى والنَّبيِّ المجتبى صلَّى الله عليه وسلَّم، ولو اكتفى هؤلاء - في خاصة أنفسهم - بترك هذه السُّنة الشَّريفة وهجرها لهان الخطب؛ لأنهم بذلك قد ضيعوا على أنفسهم وحدهم الخير العظيم، وحرموا أنفسهم من أرجى الوسائل وأشرفها وأعلاها ألا وهو سيد المرسلين وإمام المتقين، ولكنهم لم يكتفوا بهجر السُّنة بل دعوا الناس إلى تركها وهجرها، وهذا فيه ردُّ الأمر على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وصدُّ الخلق عن سُنن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وقد اعترف بعضهم بأنَّ هذا الحديثَ صحيح لكنه زعم أنه خاصٌّ بحياة المصطفى صلى الله عليه وسلم دون وفاته، وعلى ذلك فقد حاولوا صدَّ الأُمة عن هذا الخير العظيم الذي أرشد إليه الحبيب صلى الله عليه وسلم.
ولا شكَّ أنَّ قائل هذا جاهل بأبسط مبادئ علم أصول الفقه، مقلد جامد متعصب؛ لأنه لا يدرك أنَّ الأصل في التشريع هو العموم لعصر النبي صلى الله عليه وسلم وجميع الأعصار من بعده إلى يوم القيامة، وأن قول وفعل النبي صلى الله عليه وسلم الأصل فيه أنه تشريع له ولأمته من بعده في حياته وبعد انتقاله الشريف، وأن النسخ والتخصيص لا يكون إلا بدليل صحيح صريح أما التخصيص بمحض الهوى والتشهي والتقليد البغيض فإنه من صفات الذي لا يعلمون.
o ونقول للمعترض: إذا كنت أيها المعترض ترى التوسل بحبك للنبي صلى الله عليه وسلم أمرًا حسنا وهو كذلك، أفيحسن منك أن تجعل توسلك به ذاته صلى الله عليه وسلم عملا مرذولا؟ وحبك له عمل قلبك وعمل قلبك مهما بالغت فيه فهو ناقص، فكيف ساغ في ذهنك يا رجل حسن توسلك بمحبتك له صلى الله عليه وسلم، ثم تقبح توسلك به ذاته صلى الله عليه وسلم. هذا عجب غير مفهوم.
o الحق عندي أن التوسل به صلى الله عليه وسلم من أفضل القربات وأعظمها حتى لو لم ترد به بخصوصه نصوص؛ فهو لا شك داخل في عموم قوله تعالى «وابتغوا إليه الوسيلة» فكيف وقد وردت به بخصوصه النصوص وعمل به الصحابة والسلف الكرام؟
وبعض المعترضين يطلب دليلا قطعيا على صحة التوسل.
o فنقول: بل هذه المسائل تثبت بالدليل الظني وهي مسائل فقهية عند الناس قديما وحديثا حتى الشيخ محمد بن عبد الوهاب نفسه قال إنها من مسائل الاجتهاد والشيخ الألباني في مقدمة الطحاوية في رده على الشيخ عبد الفتاح أبي غدة رحمه الله قال إنها من مسائل الفروع. والفقه من باب الظنون كما قال البيضاوي في المنهاج الأصولي؛ أي يكتفى فيه بالدليل الظني الصحيح، فهذا ليس مطلبا في أصول العقائد حتى نطالب فيه بدليل قطعي الثبوت أي متواتر في إسناده قطعي الدلالة أي لا يحتمل تأويلا. هل نحن بصدد إثبات وجود الله حتى نطالب بهذا النوع من الأدلة.
o وقد ارتكب ابن تيمية رحمه الله وغفر له تناقضا عجيبا في فهم حديث التوسل فقد أنكر على القائلين بالمجاز وشنع عليهم وجعله ليس من لغة العرب أصلا ولا من لغة القرآن ولا السُّنة. ثم جاء في هذا الحديث بالذات والتزم التأويل. فجعل (أتوجه بنبيك) أي بدعاء نبيك. والقواعد من شانها أن تطرد وأن تكون عامة وليس من العلم في شيء السير على القواعد وقتما نشاء والتنكب عنها وهجرانها وقتما نشاء. هذا هو عين التناقض الذي وقع فيه ابن تيمية وبنى عليه علالي وقصورا هاويات، والكثير اليوم يسير وراءه مقلدا له غير متبصرين.
o وأنا أسأل كل من يدعي السلفية تبصر في شأنك أأنت من الرافضين للتأويل؟ أو أنت من القائلين به؟ أو أنت تتبع فيه الهوى والمزاج عندما تكره تشنع على أهل التأويل، وعندما يحلو لك التأويل تفعله. وتقول : إن أتوسل إليك بنبيك تعني : بدعاء نبيك!!!!
وهناك رواية أخرى للحديث تثبت دعوانا بفضل الله عز وجل على جواز التوسل بذاته الشريفة صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته وهي ما رواه ابن أبي خيثمة في التاريخ من طريق حماد بن سلمة أنا أبو جعفر الخطمي عن عمارة بن خزيمة عن عثمان بن حنيف .... الحديث وفيه: وإن كانت لك حاجة فافعل مثل ذلك.
نقلته من رفع المنارة بتخريج أحاديث التوسل والزيارة للدكتور محمود سعيد (ص106) فتاريخ ابن أبي خيثمة ليس تحت يدي الآن.
وهذا دليل على العموم الذي ينكره المعترض.
ولمن يدعي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تركوا التوسل به بعد وفاته نقول :
o أولا: إن تركهم ليس بحجة بل إن مجرد ترك النبي صلى الله عليه وسلم لأمر ما لا يكون حجة على تحريم الشيء. لم يقل بحجية الترك أحد من أهل الأصول.
ثانيا إن صحابة النبي فعلوه ولم يتركوه، فحكاية الترك هذه فرية عظيمة على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك يتمحلون لجعل علة هذا الترك المتوهم في أذهانم الحرمة أو مظنة الوقوع في الشرك مع أن الترك أوسع من الحرمة؛ لأنه يشمل المندوب والمباح أيضًا. فإن سلمن بالترك فالمعترض مطالب بتعيين أنهم تركوه تحريما له..
o وحادثة الاستستقاء وتوسل سيدنا عمر بالعباس رضي الله عنه ليس فيها ترك للتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أصلا لأنه توسل بصلاة الاستسقاء التي تحتاج إلى إمام حي فهي ليست داخلة في محل النزاع أصلا. وقد ذكرنا لك أن كلمة سيدنا عمر (كنا نتوسل إليك بنبيك) متعين فيها بحسب السياق والحال أي: بصلاة الاستسقاء التي يؤمنا فيه نبيك؛ لأن هذا هو الواقع والحادث بالفعل في حياته صلى الله عليه وسلم، لكن كلمة التوسل عند المعترض لها معنى واحد ضيق لا يفهم غيره يفسرها به في كل نص وموضع. يا أخي أليست صلاة الاستسقاء توسلا أيضا؟
o وقد قال بعض المعترضين أيضا: أنت تنفي أن يكون ترك الصحابة حجة : فما تقول في هذه النقول عن أهل العلم : ـ وقال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية : ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان أنكروا غير الصلوات الخمس كالعيدين وإن لم يكن فيه نهي، وكرهوا استلام الركنين الشاميين.
وقلنا ردا عليهم: هل قوله أنكروا وكرهوا في اللغة تساوي عندك تركوا؟ الإنكار هنا تصريح بالتحريم، والتصريح قول، فهم أنكروا بقولهم فلو تركوا ما أنكروه تكون الحجة في قولهم، وكلمة أنكروا وكرهوا بواو الجمع واضحة في أن هذا إجماع للصحابة ولا خلاف في حجية إجماعهم. أما تركهم فلا أعلم احدًا قال بدلالته على شيء أصلا إلا ابن تيمية ثم مقلدوه وعندك كتب أصول الفقه قديما وحديثا. فارجع إليها إن شئت.
وقال لي معترض جاهل: ولو كان الأمر عاماً كما تدعي لكان التوسل به صلى الله عليه وسلم معجزة سارية المفعول ، وكانت وسيلة لرد بصر كل كفيف ، ولكن لما لم يفعل ذلك الصحابة دل على أمر آخر ..... وقال الجاهل: لو كانت معجزة سارية فهيا بنا نأتي بكفيف ويدعو ويتوسل كما أدعيت أخ أشرف ثم ننظر النتيجة... فإن رد الله عليه بصره صدقت في دعواك / وإلا فأنت مدعٍ أمراً لا أساس له من الصحة ..
فقلت له: أستغفر الله العظيم هذه سخرية حسابك فيها عند الله لا عندي. فلن أرد على هذا فعند الله تعالى رده أبلغ الرد عاجلًا إن شاء الله. أما كوننا نأت بكفيف فيدعو ويتوسل ثم يستجاب أو لا يستجاب فهذا أمر يرجع إلى مشيئة الله تعالى وقدرته وإرادته، وكونه لا يستجاب له شيء، وكون التوسل أمرا مشروعا شيء آخر. وإن شئت يا أخي رددتُ عليك بنفس أسلوبك فأقول لك هات هذا الكفيف واجعله يدعو متوجهًا إلى الله وحده بلا توسل أو يتوسل بعمله الصالح أو باسم من أسمائه تعالى أو صفة من صفاته أو يتوسل بذاته تعالى إليه فهل تجزم بأن بصره سيرد عليه؟ أو إن استجابة الدعاء واقعة تحت المشيئة مهما كانت وسيلة هذا الدعاء؟ حقًّا أمسك لساني عن مثل هذا وأستغفر الله أني أجاريك فيه.
فإن قلت: جربنا التوسل بالأعمال فوجدناه ناجعًا نافعا. قلت لك: أيضا جربنا هذا وذاك فوجدناهما نافعين ناجعين بإذن الله تعالى. فكل من عند الله تعالى.
وقد ناقشني أحد المتعصبين في متن ومضمون الحديث قائلا:
من جهة المتن فقلت : كيف يقع ذلك من عثمان بن عفان وقد توعد النبي (صلى الله عليه وسلم) فاعل ذلك من الأمراء والخلفاء فقال (صلى الله عليه وسلم) : " من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم : احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة " وفي رواية " ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته " ( د ، ت ) ..... وعثمان هنا احتجب عن هذا الرجل فهل يا ترى كان عثمان جاهلاً حتى انه لم يعرف حقوق رعيته عليه ؟ أم أنه كان متكبراً كما قالت الرافضة ، واستدلوا بهذا الأثر ، أم أم أم أم ..... الخ .. فكيف جوابك على هذا ؟ وهل يليق هذا بسيدنا عثمان ؟
أقول: أولا إذا كنت تدعي عصمة الصحابة رضي الله عنهم من الخطأ والذلل وأن سيدنا عثمان رضي الله عنه معصوم لا يخطئ أبدًا فهات الدليل على العصمة نسلم لك بنكارة المتن مهما بلغ إسناده من القوة والمتانة.
وإن كنت تسلم أنهم رضي الله عنهم ليسوا بمعصومين لا من الكبائر ولا من الصغائر وما يقع منهم من ذلك اللمم ذائب بإذن الله تعالى في بحار أفضالهم وجهادهم مع النبي صلى الله عليه وسلم. فلم تستبعد أن يصدر من سيدنا عثمان مثل هذا؟ والصحابة وقعت منهم أشياء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته تقطع بعدم عصمتهم من صغائر الذنوب وكبائرها، وسيدنا عثمان رضي الله عنه ليس مستثنى من هذه القاعدة، على علو قدره وعظم منزلته رضي الله عنه.
ثم إن الرواية يا أخي الكريم ليس فيها كل هذه التهويلات التي زعمتها فليس فيها غير أن سيدنا عثمان رضي الله عنه لم يلتفت إلى حاجة الرجل ولم ينظر فيها، فليس فيها احتجاب ولا أي شيء غاية ما هنالك أن يكون سيدنا عثمان قد تشاغل عن الرجل بكثرة الأعمال الملقاة فوق كاهلة رضي الله عنه وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوارد منه أن يتشاغل عن المهم بما هو أهم وليس في هذا ما يطعن في سيدنا عثمان رضي الله عنه. والدليل على هذا ما ورد في الرواية ذاتها (ثم قال له : ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة وقال ما كانت لك من حاجة فأتنا) يعني أن سيدنا عثمان نسي والنسيان والسهو مرفوع في مجال المؤاخذة بالإجماع، وما نقلته من الوعيد هو في حق من تعمد الاحتجاب عن الرعية، فلم تعظم الأمور حتى تلحقنا بالرافضة يا رجل؟. غفر الله لك.
وقد قال المعترض: سبق لك أن عنفتني شديداً عندما أضفتُ لفظاً لدعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) وأدخلت المسألة في إيمان وكفر ، والآن جاء الدور عليك ، فالزيادة على كلام النبي (صلى الله عليه وسلم) كالنقص منه ، وفي هذه الرواية ضاع الجزء المهم والركن المفيد في التوسل وهو قول الضرير (اللهم شفعه في وشفعني فيه ) وهذا لب التوسل في الحديث !!! فلماذا لم يدل عليها عثمان بن حنيف الرجل ؟؟؟ وما موقفك من عثمان هذا الذي غير وبدل وحذف ولم يطق أن يقول ما قاله النبي (صلى الله عليه وسلم) ؟؟؟؟؟ وما كان يقصد من ذلك عثمان بن حنيف ؟؟؟
فقلت له: موقفي من سيدنا عثمان بن حنيف رضي الله عنه. أنه سيدنا وتاج رؤوسنا رضي الله عنه لم يعدل عن لفظ النبي ولم يشمأز كما فعلت أنت يا أخي ولم يتأوله بلا ضرورة كما فعلت أنت، غاية ما هنالك أنه رضي الله عنه اقتصر من كلام النبي صلى الله عليه وسلم على ما تدعو إليه الحاجة في هذا الموقف. فعلم الأعرابي ما تكرهه أنت من التوسل بذات النبي بعد انتقاله الشريف صلى الله عليه وسلم. ففعله مغاير بل مناقض لفعلك غاية المناقضة. واختصار اللفظ شيء والعدول عنه بالكلية وتحريفه أمر آخر.
وقد قال المعترض أيضا: ما فعله عثمان بن حنيف مردود بفعل الصحابة جميعاً.
أقول: لا تضحكني يا رجل ، أين ما تدعيه من فعل الصحابة؟ أنت تدعي الترك لا الفعل ولم تقم دليلا على كون الترك حجة يعني تستدل بالعدم. وحتى لو ثبت ما تدعيه وهو غير ثابت لكان غاية ما يدل عليه أن بعض الصحابة فعله وبعضهم لم يفعله. فثبتت المشروعية في الجملة.
وأيضًا نقول لهم على من تردون وتنكرون؟ هل تردون على المتوسلين المتبعين سنن خاتم النبيين، أم تردون على المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي (لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى) أم تجعلون هديكم اهدى من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي قال فيما رواه البيهقي في شُعب الإيمان (10376) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «لَيْسَ شَيْءٌ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلاَّ أَمَرْتُكُمْ بِهِ ، وَلاَ شَيْءٌ يُبَاعِدُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَيُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلاَّ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ».
ونحن نقول لهولاء المَّدعين الذين يمنعون وينكرون التوسل بالأنبياء والأولياء والصَّالحين خلافا لكلام سيد المرسلين: أين ذهبت عقولكم؟ ألستم تجيزون التوسُّل بالأعمال الصالحة؟ ألستم تجيزون التوسُّل بدُعاءِ الرَّجل الصَّالح بل وغير الصَّالح، فيطلب بعضكم من بعض الدعاء حتى وإن لم يشتهر بالصلاح؟ فكيف تمنعون التوسل بما هو أعلى وأرقى مقامًا من أعمالكم ودعاء غيركم ألا وهو النَّبيُّ وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؟ وقد ورد به الحديث الشَّريف الصحيح؟ أليس هذا تناقضًا؟
إذا كانت الأعمالُ والَّدعواتُ الصَّالحة من أفضل القُربات إلى الله سبحانه وتعالى، فإنَّ الذوات النورانية الصَّالحة والأرواحَ الطَّاهرة هي كذلك من أفضل الوسائل المقربة من مرضاة الله تعالى واستجابة الدعاء.
قال الشوكاني رحمه الله: «التوسُّل به صلى الله عليه وآله وسلم يكون في حياته وبعد موته، وفي حضرته ومغيبه، ولا يخفاك أنه قد ثبت التوسُّل به صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، وثبت التوسل بغيره بعد موته بإجماع الصحابة إجماعًا سكوتيًّا لعدم إنكار أحدٍ منهم على عمر رضى الله عنه في التوسل بالعبَّاس رضى الله عنه، وعندي أنه لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم كما زعمه الشيخ عز الدين بن عبد السلام لأمرين:
الأول: ما عرفناك به إجماع الصحابة رضي الله عنهم.
والثاني: أن التوسل إلى الله بأهل الفضل والعلم هو في التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة ومزاياهم الفاضلة؛ إذ لا يكون الفاضل فاضلا إلا بأعماله.
فإذا قال القائل: «اللهم إني أتوسُّل إليك بالعالم الفلاني» فهو باعتبار ما قام به من العلم وقد ثبت في الصَّحيحين وغيرهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلم حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة أنَّ كل واحد منهم توسَّل إلى الله بأعظم عمل عمله فارتفعت الصَّخرة، فلو كان التوسُّل بالأعمال الفاضلة غيرَ جائز أو كان شركًا كما يزعمه المتشددون في هذا الباب كابن عبد السلام ومن قال بقوله من أتباعه، لم تحصل الإجابة من الله لهم، ولا سكت النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلَّم عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم، وبهذا تعلم أن ما يورده المانعون من التوسل إلى الله بالأنبياء والصلحاء من نحو قوله تعالى: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) ونحو قوله تعالى: (فلا تدعوا مع الله أحدا) ونحو قوله تعالى: (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء) ليس بواردٍ بل هو من الاستدلال على محلِّ النزاع بما هو أجنبي عنه، فإنَّ قولهم: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) مصرح بأنهم عبدوهم لذلك، والمتوسل بالعالم مثلا لم يعبده، بل علم أنَّ له مزيةً عند الله بحمله العلم فتوسَّل به لذلك، وكذلك قوله تعالى: (فلا تدعوا مع الله أحدًا) فإنه نهيٌ عن أن يُدعى مع الله غيره، كأن يقول: يا الله ويا فلان. والمتوسِّل بالعالم مثلًا لم يدع إلا الله، وإنما وقع منه التوسُّل إليه بعمل صالحٍ عمله بعض عباده، كما توسل الثلاثةُ الذين انطبقت عليهم الصخرة بصالح أعمالهم، وكذلك قوله: (والذين يدعون من دونه).... الآية. فإن هؤلاء دعوا من لا يستجيب لهم، ولم يدعوا ربهم الذي يستجيب لهم، والمتوسل بالعالم مثلا لم يدع إلا الله ولم يدع غيره دونه ولا دعا غيره معه». انتهى من كتاب الدر النضيد من ص18 إلى ص 21 طبعة دار ابن خزيمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق